10 أبواب للاستثمار مقابل كل بابٍ للمضاربة

حينما ذكرتُ في نهاية المقال السابق ''الأسهم أو العقار.. راحتْ على السوقين'' إلى الضررِ البالغ على الاقتصاد المحلي، نتيجة استمرار هروب رؤوس الأموال إلى الخارج بوتيرةٍ أكبر حال عدم تسهيل وتيسير بيئته الاستثمارية، فإنَّ ذلك لا يعني أنّه غير واقعٌ الآن! بل هو قائمٌ بتشوّهاته منذ عدّة عقود.
لطالما وقفتْ تلك التشوهات الهيكلية بالاقتصاد المحلي حجر عثرةٍ أمام تحقيق أعلى العوائد من الفوائض النفطية، وتحديداً باتجاه تحقيق مستوياتٍ متقدمة على طريق التنمية المستدامة والشاملة. كرّسها وعمّق من وجودها عاملان رئيسان؛ الأوّل: تأخّر البرامج والسياسات الاقتصادية عن تلبية متطلبات واحتياجات التنمية، وعجزها عن مواجهة الدورات الاقتصادية المتقلّبة طوال العقودٍ الأربعة الماضية، كان من أبرز نتائجها السلبية: (1) تفاقم تلك التشوهات (زيادة اعتماد القطاع الخاص على الحكومة بعكس ما يخدم استقلاليته، التستّر التجاري، اقتصاد الظل، زيادة استقدام العمالة غير الماهرة، زيادة النشاطات التجارية المعتمدة على الواردات، سهولة نشوء أسواق للمضاربات، إلخ). (2) انحسار قدرة النشاطات الإنتاجية على التوسّع والامتداد أفقياً وعمودياً ضمن هيكلة الاقتصاد، ولا عجب بعدئذ؛ أن ترى تسعة أعشار إيرادات الحكومة متأتية من النفط، وأن تكتشف أنَّ بين كل عشرة عمّال غير سعوديين يوجد تسعة منهم إمّا أمّي أو بالكاد يقرأ ويكتب ''7.4 مليون عامل 2012''.
العامل الثاني: أفضتْ استدامة التشوّهات إلى زيادتها وتجذّرها من جانب، وإلى خلقِ مزيدٍ منها من جانبٍ آخر، ولعل ما وصلنا إليه من حالة استعصاء كثيرٍ من التحديات الاقتصادية على الحل كالبطالة، وانخفاض الدخل، وأزمة الإسكان، وميل رؤوس الأموال للمضاربات أكثر منها في الاستثمار؛ شاهداً على عمقها في جسد الاقتصاد المحلي، وما زاد من قيمة فاتورتها، هو استنزاف تلك التشوّهات للموارد المحلية بصورةٍ مثيرة للقلق إلى حدٍّ بعيد.
إزاء حالةٍ كهذه للاقتصاد المحلي كما يصفُ الكاتب، يتساءل المرء؛ لا بد أنَّ هناك مبالغة في الوصف، وأنَّ الأمر أقلُّ بكثيرٍ من ذلك، وإلا ما وجدنا الاقتصاد يحقق معدلات نموٍّ حقيقية بأعلى من 6 في المائة سنوياً إلى آخر ديباجة هذا النمط من الخطاب الدارج! أقولُ له: إنَّ ما تراه فوق سطح البحر مختلطاً بما قد يشعرك بنوعٍ من الاطمئنان لأدائه، إنْ ركنتَ إليه متجاهلاً ما يجري في أعماقه من تعقيدات وتشوهات، فإنّك في نهاية المطاف ستجد مصيرك أمام موجٍ متلاطم من التحديات قد لا تجدي معها أية حلول مهما كلّف ثمنها!
لذا؛ إمّا أنْ تقوم بإخضاع كامل معطيات ومؤشرات أداء الاقتصاد للمراجعة والتحليل بصورةٍ دورية، لتكتشف أي اختلالٍ قد ينشأ في وقتٍ مبكر، ومن ثم تبدأ في إصلاحهِ بتكلفةٍ أقل! أو أنْ تركنَ إلى ''نصف الكوب الممتلئ'' كما يُسوّق له من قبل البعض، ولكن عليك ألا تتفاجأ إذا ما وجدتَ نفسك ذات يوم أنّ حتى هذا النصف الممتلئ، قد لا يكفي لإصلاح الاختلال الذي تأخّرتّ كثيراً في إصلاحهِ.
وصلَ عدد منشآت القطاع الخاص حتى نهاية 2012 ـــ وفقاً لإحصاءات وزارة العمل ــــ إلى نحو مليوني منشأة، شكّلتْ منها المنشآت الصغيرة ''49 عاملا فما دون'' نحو 98.5 في المائة، فيما لم تتعدَّ المنشآت العملاقة بينها ''أكثر من ثلاثة آلاف عامل'' سقف الـ 807 منشآت فقط! أنتَ الآن أمام مشهدٍ رقمي يُبيّن لك جزءاً يسيراً من كامل صورة الاقتصاد، ذلك أنَّه على ما يتمتّع به من مزايا تنافسية ووفوراتٍ مالية هائلة لن تجدها لدى أكثر من خمسة اقتصادات أخرى حول العالم، إلا أنّك حينما تضيفها للمشاهد الرقمية الأخرى، كوجود نحو 3.6 تريليون ريال على هيئة استثمارات وطنية خارج الحدود بنهاية 2012، بعائد سنوي بالكاد يناهز 1.0 في المائة، مقابل أرصدة للاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد المحلي بلغت مع نهاية 2012م نحو 747.2 مليار ريال، تتجاوز عوائدها السنوية المحوّلة للخارج أكثر من 6 في المائة ''بلغ إجمالي تحويلات دخل الاستثمار الأجنبي التراكمية للفترة 2005 ــ 2012 نحو 252.5 مليار ريال''، هذا عدا تحويلات العمالة الوافدة ''بلغت للفترة السابقة نفسها نحو 669.5 مليار ريال''، وهذا على سبيل المثال لا الحصر؛ فلا تعجب أن ترى القطاع الخاص الذي يُشكّل من الاقتصاد الوطني أكثر 50 في المائة يقوم على هكذا منشآت، العملاق فيها من نحو مليوني منشأة فيها لا يتجاوز 807 منشآت فقط! ولا تعجب أن تجده عاجزاً عن استيعاب 1.5 مليون طالب عمل من المواطنين ''84 في المائة منهم من حملة الشهادة الثانوية فأعلى''، ولا عجب أن تجده قياساً على مصادر دخله وأنشطته المرتبطة إجبارياً بعوائد النفط يعتمد على الاستقدام الرخيص الثمن إلى حدود الإدمان، ولا عجب أنْ تجد أنشطة التستر التجاري مستشرية في أغلب أركانه، وأخيراً وليس آخراً، لا عجب أن مقابل الإجراءات البيروقراطية المعوّقة أمام رؤوس الأموال الوطنيّة إمّا أن تخوض في غمار المضاربات في الأسواق إن هي فضّلت المقام محلياً، أو أن ترتحل خارجةً بكل سهولة إلى مختلف الأسواق حول العالم!
لا يكفي فقط أن تُسنَّ الأنظمة واللوائح التي تحد من مخاطر مضاربات السيولة في السوق المحلية، كسوق المال أو السوق العقارية أو غيرها من الأسواق! بل لا بد أن تصاحبها تسهيلاتٍ قيّمة وامتيازات تحفزّها نحو تأسيس مزيدٍ من المشاريع الإنتاجية ذات القيمة المضافة على الدخل والتوظيف والتنمية في نهاية المطاف، بلادنا تتمتّع بحمد الله بالكثير من المزايا التنافسية لعل من أبرزها هو توافر مصادر الطاقة، وانخفاض مديونية الحكومة، وحيوية المجتمع الذي يُشكل من هم في سن 40 عاما فما دون نحو 79 في المائة منه، هذا عدا توافر الثروات المالية الكافية لتمويل أية مشاريع إنتاجية نطمح إليها. جُل ما في الأمر؛ كلما أغلقتْ باباً للمضاربة أفتح مقابله عشرة أبوابٍ للاستثمار!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي