التاريخُ وأنا في مدارس الرياض

تأملات الإثنين
.. أثناء لقائي قبل الأمس بنات مدارس الرياض، وكان اللقاء عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة، دارت أحاديث وقصص كثيرة ضمن فعاليات عضوات مجلس الشورى بالمدرسة وشاركن فيها كل طالبات المرحلة الثانوية بالمدرسة. وتداخل كثير من الفتيات الصغيرات، بجرأة وقوة تفكير، وسعة أفق رغم الأعمار الصغيرة.. إلا أن واحدة منهن قامت تجادلني بالتاريخ وتشكك أصلا بأن كل ما بالتاريخ حقيقة. بل قالت لي: "أعتبر ما قلته مضللا لأنك استقيته من تاريخٍ كل يكتب به رأيَه بما يرى." أعجبني موقف الصغيرة القوية الشخصية والرأي، وأوافقها إلا بما هو موثق مثلا بالأفلام أو الصور أو الوثائق، والتي بعضها نستطيع أن نصل إليه الآن في مرافق الحفظ بأي مركز تاريخي أو أكاديمي.. أو بالتاريخ الأركيولوجي الخاص بالآثار واستدلال أعمارها وما كتب بها، فهي دليل ساطع على الحضارات في كل مكان وبالدلائل المشهودة.
وكلام الصغيرة عميقٌ جداً، حتى في الفهم الشخصي أو المَيْلي للتاريخ. فقد نُقل التاريخُ لنا من زوايا مختلفة، فحاول بعض الباحثين أن يجعل للبيئة الجغرافية وعواملها الأثر الأكبر في توجيه دفة أحداث التاريخ، وحاول باحثون آخرون أن يجعلوا للعوامل الاقتصادية المكانة الأولى في أحداث التاريخ وتفاعلاته وتطوراته. ورأى بعضٌ أن الأفكارَ الدينية أو السياسية هي المحرّك الخفي للتيار التاريخي جله.
طيب، نرجع لرأي البنت الحصيف بما يُروى بالتاريخ، وهنا تتراءى لنا فورة العقل بغض النظر عن الزمن والعمر الصغير.. حتى إنه سمّته معلومات مضلـِّلة، أو أن معلوماتي أنا شخصيا مضلـِّلة. طبعا في هذه الآراء التاريخية الكثير منها حقيقة خصوصا تلك التي لا نملك ضدها دلائل صادّة مانعة وداحضة, ولكن بالتأكيد أن هناك جانبا من الإسراف والمبالغة وسبق أن تحدثت عن إسراف ووهم في مثل رحلات ابن بطوطة، وماجلان، وكريستوفر كولومبس، وحكايا الفاتحين الإسبان في أمريكا الجنوبية وأساطيرهم، وهي ليست أكاذيب دوما ولكنها تهيؤات لم يتعود عليها أولئك الرحالة والكشافون في بيئاتهم. وفي اعتقادي أن الشخصية الإنسانية ذاتها لأي مؤرخ أو مسجل للتاريخ هي المرجع الأول والأخير. خذ أن أهلي ترحلوا من القصيم من عقود طويلة، وأذكر وأنا صغير أن عند جدي مراسلات بينه وبين إخوانه وأصدقائه في عنيزة، وكان يعطيني تلك الرسائل وأنا بالرابعة الابتدائي كي أقرأها له لما ضعُف نظرُه، وأذكر من رسائلهم أن اجتماعاً واحداً بالحيالة بعنيزة رواه أصدقاؤه وإخوانه وعددهم سبعة بسبع قصص وسبعة مشاهد وسبعة أحكام.. واعتقدت وقتها أني لو ذهبت لحي الحيالة في المدينة التي لا أعرفها لما عرفت أن أستدل على المكان ولا القضية لو وصلتُ هناك.
إذن، لي، ربما، أن أدَّعي أن الشخصية الإنسانية تؤثر جدا في الرواية وطريقة سرد ووصف الرواية.. وهنا يتغير أو يتبدل أو يتلون التاريخ بصغره، أو باتساعه.
للعالم المؤرخ الأنثربولوجي "في جوردون تشايلد V. Jordan Childe" كتابٌ قيّم جداً في أن الإنسان يصنع تاريخه بنفسه، وكأن العالم ملايين الروافد من روايات التاريخ ثم تصب في مصب عظيم واحد، ولا شك أن روافد تجف،أو لا تصل، أو تنحرف، أو تتبدل.. وهذا يفسر التاريخ الإنساني، ويرينا أيضا وبطرق مختلفة في كيفية شق الإنسان لطرقه الصعبة وهو يصنع الحضارات، أو يكون المجتمعات الإنسانية ثم سن القوانين والشرائع، ومنها تتوالد متغيرة مع المكان والبيئة والفهم الدائر التقاليد والأعراف والعادات وما نسميه الآن بمكونات الثقافات المختلفة.. فإن كانت المكونات المعرفية المنقولة مختلفة فلا بد أن لكل مكوِّنٍ تاريخا يُتلى.
وعلينا أن نعلن أن الإنسان كان دوماً صانعاً فعليا لتاريخه، فالإنسانُ لا يجلس مستكينا لتسيّره التقاليدُ والعادات مستسلماً وخاضعاً، وإنما تعمل العقولُ أو بعضها لعدم قبول الواقع المشكوك بصحته ومنطقه كما فعل الأنبياءُ الذين لم يقبلوا ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم من ضلال، وكذلك المصلحون، والمغيّرون الاجتماعيون بكل مجال. فالإنسان ليس جامداً، وإلا صار من عداد الصخر الأصم والحيوان غير المدرك.. فلا تجري علينا العادات والتقاليد الخاطئة والمفاهيم السائدة المائلة كأحكام الضرورات بغير نقضٍ ولا إبرام.
وهذا ما وقفت له بجرأة التلميذة الصغيرة في ثانوية مدارس الرياض لتعلنه رأياً.. أو أن هذا ما ألهمتني إياه!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي