الدجاج حرام

.. ليس هناك ما هو أكثر غموضاً من زاوية رؤية أي إنسان للحياة. كل منا عنده عالمه الخاص، وتصوره الخاص، وبناؤه الانطباعي الخاص. لو دخلت ذهن أي بشري لتعجبت من عالم جديد لا تعرفه ولم تعرفه من قبل. وكمجتمعات بشرية مختلفة أيضاً لنا الرؤية الجمعية للعالم تضرب من أبواب العجائب، وجوانب الغرائب.
إنك ستتعجب عند القراءة في أنثربولوجيا تاريخ الأمريكيين الأصليين في الشمال الغربي، الذي جاء كولومبس وسمّاهم خطأ الهنود الحمر، لأنه اعتقد أنه وصل الهند، ولما رأى سحنتهم حمراء نحاسية أطلق عليهم الوصف. هؤلاء الجماعة من الأقوام القديمة كانت تتنقل وتلاقي أقسى أنواع شظف الحياة، وقسوة التضاريس وامتداد البراري من أجل صيد الجواميس الأمريكية "البافالو". ولكنهم لا يأكلون السمك أبداً، ولو كانوا يأكلون السمكَ لما اضطروا إلى أن يترحّلوا ويجابهوا شظافة ظروف الطبيعة، لأن السمكَ وفيرٌ جداً في جداولهم وأنهارهم ومساقط مياههم، ولكنهم كانوا يحرّمون أكل السمك، بل لا يطيقون صيده بلْه أكله لأنهم يؤمنون إيماناً قاطعاً أن أرواح أجدادهم رحلت إلى أجساد الأسماك. وكان الرومانُ القدماءُ يقدّسون الدجاجَ ولا يقربونه إيماناً غريباً بأن له علاقة بقراءة المستقبل، خصوصاً بخطوط أثر مِشية الدجاج، ومنها - كما يسري في عقيدتهم- أن قراءة سحبة أثر أرجل الدجاج تفصح لهم عن المستقبل، وكيف يحافظون على عبيدهم، وذهبهم، وحصادهم، وقواهم وعتادهم.
يوما زرتُ "المحدار" قرية حدودية نسيناها، ونستها الذاكرة الحضورية عموماً، بقرب سلوى مركز حدودنا مع الشقيقة قطر.. هناك تسكن مجموعة قبلية، ومجموعات أحضرت من جهات أخرى. وما أن تقطع فقط الشارع الأسفلتي العام حتى تدخل على ساحلٍ من أجمل وأنظف سواحل الخليج على الإطلاق، ومنظر يمتع القلب، وينزه النفسَ، ويترحل مع النظر.. ولفتني أن لا أحد من القرية يذهب للتنزه بجوار ساحل البحر. ذهبت للشاطئ ووجدته صورة جمالية من البيئة شبه المطهّرة من التلوث، وهواء منعشاً، وأظن لو كنت تحب صيد السمك ستجد الصيد وفيراً، فكنت أرى مروق أرتالٍ صغيرة من الأسماك، تمر من بين رِجْلَي آمنةً وكأنها لم تتعرّف على خطر الإنسان، وأحببت بلذةٍ غريبةٍ ثقتها بي. العجيب أني لما طلبت من بعض أهل المحدار التنزه معي في البحر، قالوا: "لا، لا، حنا نرروح البحر؟ أبدْ، الله لا يقوله". وكادت آخر خلية عاملة في دماغي تنفجر، فهمت أن البحرَ برأيهم يدحض الروحَ الرجولية القبلية ويرخي النفسَ، ويميع الصفات، ويهز أركان البداوة القبلية الصحراوية. وإني أتمنى على هيئة السياحة تنمية تلك المنطقة الفائقة الجمال بحراً وتضاريس وتحافظ في الوقت نفسه على بيئتها.
وجاء العلمُ، ليكشف الأسرار والقوانين والآليات التي وضعها اللهُ في ضمير الكون لتكون قاعدةً ثابتة للجميع بالأدلة الملموسة، ولمع الفيزيائيون بالذات في هذه الكشوف المفصلية في تاريخ نمو الذهن البشري وفعالية التماسه للواقع المحسوس الواحد المثبت، وأسهم في تقريب، أو القضاء على بعض تلك الأوهام الكبرى التي خلقتها لأنفسها حضاراتٌ كاملةٌ ثم عبدتها.
وكان لظهور "الكوانتم" في الفيزياء وهو أصغر مادة في الكون غير قابلة للانشطار فتحٌ عجيبٌ في مسائل الخلاف، ليست فقط بالخرافات الإنسانية بل حتى في نقاش الوجود بكامله وفهم بعض غيبياته وخارقياته وإثبات ما خفي على الإدراك الإنساني لقرونٍ سبقتها قرون. وصار العلمُ خصوصاً بمادته الأضأل في الدنيا فتحاً، كما قلنا، حتى ساعد على النقاشات الماورائية، في إثبات أن للكون خالقاً، وأن هذا الخالق لا مثيل له، ولا شريك له - انظر كتاب أكبر عالم للفيزياء التشريحية الإنسانية "لغة الله"، وهو صاحب الخريطة الجينية "كولن فرانسس"، الملحد الذي عاد بقوةٍ مؤمناً منافحاً عن الإيمان، ولا أنسى كتاباتٍ متعددةً عن الكون والخالق، ومن واحد من رواد خبراء الكوانتم الشهير "ديباك جوبرا" الذي قاده تخصُّصه الفيزيائي إلى الغرق في الروحانيات.
نملك إذن اعتقاداً بأن أولئك الذين يبعدون عن الفهم العلمي للمادة تكتنفهم الخرافة في التماهي الغيبي الماورائي، ويزدهر عقولُ العلماء الدينيين المتفتحين على الحقائق العلمية وانتظامها الكوني ومعادلاتها المنطقية المثبتة.
المعادلة الكبرى لأي تفوق وجودي إنساني: تضافر العلم مع الدين. لو كان المفهومُ سائداً من عمق التاريخ لما تبع هنديٌ جاموساً وقربه السمك، ولا حُرم الدجاج من أجل خربشات آثاره.. ولا مُنعت النعْرة الفخرية من متع الحياة.
وكل دثور خرافة من الخرافات وأنتم بخير!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي