إسرائيل لم تكن هكذا ضعيفة أبدا!

خلال الحرب العالمية الثانية والفظائع والكوارث الإنسانية الرهيبة التي رافقتها، تكونت لدى الغربيين - ولا سيما مؤسساتهم السياسية والإعلامية - ثقافة حماية الأقليات التي لا تدين بدينهم، وتختلف عنهم إثنية.
وإن ذكرنا كارثة إنسانية اقترفها الغرب في تاريخه الحديث قفزت إلى أذهان الناس هنا ''المحرقة'' التي تمت إبادة ملايين من البشر الأبرياء فيها، أغلبهم من اليهود، بحرقهم أحياء في أتون النار والغازات السامة.
يرتعد الغربيون لهول الكارثة الإنسانية هذه، رغم أن حرق الناس أحياء في الإمكان تشخيصه كخاصية إجرامية ترعرعت ونشأت في كنف الغرب، ومارستها الكنيسة الغربية بفظاعة لا توصف، راح ضحيتها آلاف من النساء، بحجة الشعوذة، وآلاف من الناس بحجة الهرطقة.
والكارثة الرهيبة هذه يستند إليها الغربيون في علاقاتهم مع إسرائيل ودعمها ظالمة أو مظلومة، إلى درجة صارت فيه مساندة الدولة العبرية - ليس اقتصاديا أو عسكريا أو ماليا فقط، بل حتى إعلاميا - بمثابة تقليد دارج يتبعه الكل وكأنه منهج مقدس.
اتصال هاتفي من قبل سكرتير في سفارة إسرائيل كان يهز مؤسسة إعلامية جبارة مثل الـ ''بي بي سي''، وكانت فرائص الكل من المديرين إلى المراسلين العاديين ترتعد إن شهرت في وجههم بطاقة ''اللا سامية''.
وصارت تهمة ''اللا سامية'' لازمة يرددها المسؤولون الإسرائيليون لأبسط انتقاد لسياسات بلدهم في الإعلام، ونتيجة لذلك أصبح الفلسطيني المظلوم هو الظالم، والظالم الحقيقي الضحية. ووصل الأمر إلى درجة أن الناس في بريطانيا والغرب عموما كانت إلى وقت قريب تعتقد أن الفلسطينيين هم الذين يحتلون أراضي إسرائيلية ويبنون مستوطناتهم فيها عنوة.
وكانت السفارات الإسرائيلية بمثابة حراس بوابات الإعلام الغربي، يغربلون المحتوى للتأكيد أن ما يصل للمتلقي الغربي يصب في محصلته النهائية في مصلحة إسرائيل.
بيد أن الأمر قد تغير الآن بشكل مذهل، حيث لم يعد انتقاد إسرائيل وسياساتها من المحرمات، ولهذا نجا الفنان الشهير جيرالد سكارف بِجِلْده، بعد أن نشرت له ''الصنداي تايمز'' رسما كاريكاتيريا يظهر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كمصاص لدماء الفلسطينيين.
هذا الرسم أثار الإعلام في بريطانيا، ولكن رغم الحملة الإسرائيلية والصهيونية المضادة، انبرت القنوات الإعلامية والصحفية إلى عقد ندوات على الهواء تدافع فيها عن سكارف، وتفند النظرية الإسرائيلية التي كانت قد احتلت الغرب إلى وقت قريب - أن أي انتقاد لإسرائيل يقع في خانة معاداة اليهود، أي ضمن مفهوم ''اللا سامية'' الغربي الذي طبقه النازيون الألمان من خلال المحرقة.
وما أذهلني كان الندوة التي عقدتها هيئة الإذاعة البريطانية حول سكارف، وكيف أن المشاركين انبروا باتهام إسرائيل ذاتها بقضايا كانت إلى عهد قريب من المحرمات، وإن قيلت كان يجب أن تقال لوصف العرب والفلسطينيين حصرا.
ولهذا لم تعر القنوات التلفزيونية الغربية أي اهتمام للنقد الذي وجهته إسرائيل لفيلم ''خمس كاميرات مكسورة'' للفنان الفلسطيني المبدع عماد يرناط، حيث تم عرضه بشكل واسع. في السويد عرضته قناة ''إس في تي'' الشهيرة مرتين في خلال أسبوع واحد. الفيلم يصف بالصورة والصوت الممارسات الإسرائيلية الشنيعة ضد الفلسطينيين.
ماذا حدث كي يحصل هكذا تغير، حيث يتساوى فيه الفلسطيني والإسرائيلي في الإعلام الغربي لأول مرة منذ اغتصاب فلسطين قبل أكثر من 60 سنة؟
الفضل في هذا كله يعود إلى مستخدمي قنوات التواصل الاجتماعي من العرب والمسلمين، وليس للزعامات والنظم.
إسرائيل لم تكن ضعيفة هكذا منذ نشوئها، بيد أن المشكلة هي أن النظم العربية صارت اليوم من الضعف والوهن، بما يجعل من الضعف والوهن الإسرائيلي قوة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي