لماذا القطيف؟!

الأحداث التي جرت في القطيف لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة طالما هناك من يوقد نار الفتنة ويؤجج لصراع طائفي ويعزز ثقافة الثأر والكراهية ويجتر التاريخ بصورة حزينة مأساوية ويسقطها على الحاضر حتى لا يرى إلا ظلما يتجذر في النفس يملؤها إحساسا بالكراهية وشعورا بالعداء لا ينفك عنها ولا تنفك عنه. والمصيبة أن الإحساس بالظلم وقعه أشد على النفس من الظلم نفسه؟ لأنه لا يزول أبدا! وكيف يزول وهو حالة نفسية وهمية تتلبس الإنسان دون سبب ظاهر ودليل واضح لوقوع الظلم، وإنما قد تكون ثقافة مجتمعية ابتدعت لمخالفة الآخرين وروج لها للخروج عن الإجماع فتربى عليها البعض عقيدة تحكم تفكيره وسلوكه وعلاقته مع الآخر. هناك من يتلذذ بهذا الإحساس بالظلم لأنه يمنحه فسحة كبيرة في تبرير الفشل أو الإحباط وإلقاء اللائمة على من يعتقد أنه سلبه حقه وهو في الوقت ذاته وسيلة للانتماء ورابط قوي للجماعة بدافع الانتصار للنفس والجماعة المظلومة حتى وإن أدى ذلك إلى التعدي على الآخرين جهالة وظلما وعدوانا. في هكذا حالة نفسية وجماعية يشوبها سوء الظن وملوثة بالكراهية يصعب التعايش وتنحسر دائرة التلاقي والتقارب وتتلاشى معاني الأخوة والثقة، ويكون من المستحيل تحقيق رضاه مهما مُنح وأُعطي، إذ يظل الشعور بالظلم مسيطرا على عقله حاضرا في وجدانه يسد منافذ حواسه ويمنعه إدراك الأشياء على حقيقتها والتعامل مع الواقع بعدل وإنصاف وحيادية. ولذا لا يتوانى ولا يستنكف من يتلبسه وهم المظلومية في أن يظلم ويتعدى ويسب ويهين الآخرين وينال من أعراضهم باسم المظلومية التي يرفضها! وهذا في الحقيقة هدم لأركان التعايش ونقض لقواعد التعامل بين الناس لأن المبدأ الأساس في الاجتماع الإنساني هو الاحترام المتبادل والتعارف وكف الأذى.
هذا الإحساس بالظلم يجعل الإنسان يرى الأخطاء التي تقع عليه أو من حوله أكبر من حقيقتها ويجعل من الأشياء الصغيرة قضية عظيمة في مخيلته وأنه الوحيد من يعاني في هذه الحياة ويكابد ويشقى. ولذا لديه مثالية مفرطة تجعله يعتقد أن الحياة دون أخطاء وأن المجتمع مجتمع ملائكي لا يصح فيه أي خطأ وفي حال حدوثه فهو يقع عليه وحده دون غيره! ومع هذا وعلى الرغم من الرفاهية الاقتصادية التي ينعم بها المواطنون ومنهم أهالي القطيف من خدمات عامة وتعليم وابتعاث خارجي وفرص وظيفية حتى غدا هناك أعضاء هيئة تدريس في الجامعات ورجال أعمال أثرياء ومثقفون ومستوى معيشي ممتاز مثلهم في ذلك مثل بقية المواطنين في جميع أنحاء السعودية إن لم يكن أكثر نسبة للتمثيل السكاني. وإذا كان هناك عاطلون عن العمل أو قصور في الخدمات الحكومية أو معاناة البعض من الفاقة فهذه ظواهر تنتاب جميع المناطق دون استثناء. ومع ذلك هناك إنفاق سخي للدولة في مجال الضمان الاجتماعي وسياسات لتوطين الوظائف وصناديق الإقراض المتعددة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها وهي لا تخفى على أحد ولا ينكرها إلا جاحد. هل هناك مساحة للتطوير والتحسين؟ وهل هناك مجال للإصلاح والتحديث؟ الجواب نعم. وهو ما تعمل الدولة من أجله عبر حزمة من السياسات والمبادرات والهيئات مثل اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري، وهيئة حقوق الإنسان وهيئة مكافحة الفساد وديوان المظالم والحوار الوطني وغيرها. قد لا يكون تأثيرها واضحا ومباشرا على الأقل في المدى القصير، إلا أنها وبلا شك تمثل اعترافا واضحا من الدولة بأهمية الإصلاح واتخاذه منهجا وسبيلا في بناء الدولة. وهذا مؤشر للصلاح السياسي أساسه قدرة النظام السعودي للاستجابة للمتغيرات واحتواء المستجدات. فالنظام السعودي ليس مثل تلك الأنظمة الشمولية التي تقف جامدة وتفرض واقع الحال على شعوبها تكبرا وتجبرا وظلما وعدوانا لتنصب المشانق في الطرقات لكل من يخالفها. فالقيادة السياسية التي تحكم ببيعة شرعية وعقد اجتماعي على الكتاب والسنة تقف على مسافة واحدة من الجميع وتنتهج سياسة الباب المفتوح وتعمل من أجل الوطن والمواطن سعيا لتحقيق تنمية متوازنة وعادلة ومستدامة. ولا ضير مع هذا التوجه التنموي الإصلاحي أن يكون هناك أخطاء وقصور لأن من يعمل معرض للخطأ والمهم أنه لا يقع على فئة دون أخرى.
إن ما يحدث من شغب في القطيف وافتعال الاحتقان والتحريض على الخروج والفوضى من البعض غير مقبول إطلاقا وهو بكل تأكيد ضد المصلحة الوطنية ويضر بالجميع دون استثناء ويلام عليه النخب من رجال الدين والأعمال والمثقفين من أبناء القطيف ممن لهم تأثير في المجتمع ويسيرون العوام وسمحوا ولم يمنعوا استشراء ثقافة المظلومية والكراهية والثأر المزعوم. إن المواطنة الحقة تعني رؤية المشترك والحرص على الوقوف في الصف والابتعاد عما يعكر صفو الاجتماع أو الإخلال بالمصالح العليا للوطن. إن العصر الذي نعيشه هو عصر العلم والمعرفة والتفكر والموضوعية يرفض الخزعبلات وجمود التفكير والانسياق وراء العواطف وكل ما يناقض العقل والفطرة السوية، وكان لزاما على القيادات الفاعلة في القطيف وغيرها من إعادة النظر في كثير من الأطروحات التي تحد من جهود التنمية وإطلاق الطاقات الكامنة في المجتمع نحو ما ينفع ويعزز الوحدة الوطنية ويدفع نحو الاستقرار ويحقق الأمن والأمان. لم يعد كافيا الوقوف موقف المحايد ولا حتى الشجب والاستنكار إعلاميا، فالأمر يقتضي التدخل الإيجابي والمبادرة الشجاعة والحازمة لإعادة تثقيف المجتمع المحلي وبث روح جديدة ملؤها المحبة والتفاؤل والتعاون والثقة. هكذا فقط نضمن أن تكون القطيف الحبيبة في ركاب الوطن تنتظم في عقده، حتى يتحول السؤال: ''لماذا القطيف؟'' من سؤال استفهامي إلى سؤال استنكاري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي