Author

«سياقة» بلا ذوق ولا أخلاق

|
ربما يكون العنوان فيه استفزاز لمشاعر بعض القراء، وهذا ما لا أقصده ولا أتمناه، لكنني أردته عنوانا يعبر عن مشاعري، التي هي فعلا مستفزة لما وصل إليه حال السياقة عندنا. ورحم الله نظام "ساهر"، الذي ندعو له مخلصين أن يكون فعلا نظاما لترشيد سلوكياتنا المرورية وليس فقط نظاما للمخالفات، لأن مشكلتنا التي نلاحظها اليوم صارت تحيط نفسها بعدة أغلفة وأغطية سميكة من الصعب كسرها والوصول إلى لب المشكلة، وأي حل لا يصل إلى لب المشكلة ولا يتعامل معها بشكل مباشر سيعقدها أكثر ويجعلها أكثر صلابة، وهذا يرتد علينا بإحباط ويأس أكثر مما نحن عليه الآن. نحن لا نريد أن نسرد الأرقام التي ترد في الإحصائيات عن عدد الحوادث وما تنتجه من وفيات وإصابات وتلفيات في الممتلكات الخاصة والعامة، وما تتسبب فيه من تكلفة عالية على المستويين المادي والإنساني، فكلها أرقام مخيفة، لكن هناك ما هو أبعد من الأرقام، وهو الإحساس بالضيق والشعور بالتوتر الدائم وعدم الارتياح المصاحب للسياقة عند الكثير من الناس، فلم تعد السياقة بالأمر المريح في ظل ممارسات تعبر فعلا عن سلوكيات فوضوية وتفتقر إلى الذوق السليم. قبل الشروع في تحديد أصل المشكلة التي نعانيها في شوارعنا لا بد من ذكر قضيتين مهمتين لهما تأثير خفي، لكنه قوي في إحاطة هذه المشكلة وحمايتها من أي جهد قد نبذله لحلها والتخلص منها. القضية الأولى هي أن ثقافتنا الجمعية لا تهتم كثيرا بالسلوك الاجتماعي. ثقافتنا كل يوم تؤكد فشلها الذريع في ترشيد سلوكياتنا في إطار ما نؤمن به من عقائد وأفكار وما نأخذ به من عادات وتقاليد، فثقافتنا تنزع إلى الجانب النظري وتهمل الجانب العملي والسلوكي وتميل إلى التعامل معنا كأفراد وتنسى أننا نعيش في مجتمع وأن حياتنا كأفراد مرهونة بسلامة هذا المجتمع. لم تعر ثقافتنا بالا لتوعيتنا بأن التحضر يتمظهر في السلوك وأن الدين المعاملة، وعندما لا نجد للأخلاق انعكاسا في سلوكنا فإننا مجتمع متخلف حضاريا، وأننا مجتمع غير أخلاقي حتى لو كان عندنا ما ليس عند الآخرين من قيم ومبادئ أخلاقية. ومع الأسف الشديد حتى التدين عندنا جعلناه تدينا نظريا عقائديا وفقهيا من غير أن نعطي للسلوكيات الأخلاقية الرشيدة الأهمية التي تستحقها. المتدين المنتفخ عقائديا والمجوف أخلاقيا شره على المجتمع وضرره على الآخرين أكثر من ضرر غير المتدين غير الأخلاقي، لأن ذاك يمارس الأخلاق بشرعية دينية وباعتباره إنسانا يمثل الصلاح ويطلب المصلحة والهداية لمجتمعه على خلاف ذاك غير المتدين الذي يعرف أن فعله مكشوف بالنسبة للمجتمع، ومن هذا المنطلق يخاف الناس من الخلافات الدينية والمذهبية أكثر من بقية الخلافات لأن في هذه الخلافات لا تكون هناك أخلاق، بل تحول هذه الخلافات أصحابها إلى وحوش تنهش بعضها بعضا وتتلذذ بممارسة أبشع السلوكيات اللا أخلاقية، وبدل أن يرتقي الفكر وقوة العقيدة بصاحبه أخلاقيا نجد أن هذا العلو في الفكر عند الإنسان الطائفي يزيده انتكاسا في أخلاقه فيتحول به العلماء من مشاعل للهداية إلى منابر للفتنة وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار. ولا نعفي نظام التعليم من هذا الظلم الثقافي الذي لحق بنا، فهو لم يكترث بجعل المدارس أماكن لتأهيلنا سلوكيا، بل صارت المدارس في بعض الأحيان المكان المناسب لتعلم الفوضى وعدم الانضباط في سلوكنا. هل فكرنا وهل عملنا أن نجعل من نظامنا التعليمي يقوم على أساس أن المدارس بيئة لصناعة الإنسان معرفيا وسلوكيا، هل نعلم أن المدارس الحديثة وفي ظل تطور وسائل المعرفة صارت تهتم بالسلوك والمهارات الاجتماعية أكثر بكثير مما تهتم بالمعرفة والمعلومات؟ فلا بد لنا من إعادة القيمة للسلوك في ثقافتنا، فالتحضر في السلوك والتدين في السلوك والصلاح في السلوك وجمال الإنسان الحقيقي في سلوكه وأخلاقه وعندما يكون للسلوك مثل هذا الحضور في رؤيتنا لهذه الأمور سيعرف كل منا أننا عندما نمسك مقود السيارة فإننا سنعبر عن أنفسنا ونعبر عما عندنا من تحضر ومن تدين حقيقي ونكشف عما نملكه من صلاح في شخصياتنا ومن جمال أخلاقي في داخل نفوسنا. القضية الأخرى التي أعتقد أنها تشكل معضلة ثقافية عندنا هي دور تطبيق القانون في تربيتنا أخلاقيا. هناك اعتقاد خاطئ - مع الأسف - وهو أن الأخلاق شأن فردي وليس شأنا اجتماعيا في الكثير من جوانبه، فالفرد غير الأخلاقي هو في نظرنا إنسان غير سوي ومنحرف ولا دخل للمجتمع في انحرافه. وتكتمل دائرة الخطأ هذه باعتقادنا أن الوعظ والنصيحة كافيان لإصلاح أخلاقنا على الرغم مما نجده من انحدار أخلاقي في ظل تنامي الوسائل المتاحة لإيصال هذا الوعظ لأكبر شريحة من الناس. علينا أن نعترف بدور البيئة الاجتماعية في تهذيب وترشيد سلوكياتنا، فالبيئة المنضبطة أخلاقيا تساعد الإنسان على حمل نفسه على الأخلاق، والبيئة غير المنضبطة تحد من قدرة الإنسان على الارتقاء بأخلاقه. ولعل من أهم الأدوات التي نملكها لإنتاج مثل هذه البيئة المنضبطة أخلاقيا تقنين المجتمع، والمقصود بالتقنين هنا هو إيجاد القوانين والأنظمة التي تضبط إيقاع المجتمع في حركته وعلاقاته الداخلية مع الحرص الشديد على تطبيق هذه الأنظمة والقوانين بشكل عادل. المجتمعات التي يسود فيها القانون والنظام هي بالنتيجة مجتمعات أفضل أخلاقا من المجتمعات المنفلتة وغير المنضبطة قانونيا ونظاميا. السائق الذي يقف بالكامل عند إشارة الوقوف الإلزامي وليس فقط عند الإشارة الحمراء ويسمح للآخرين بالمرور كل حسب دوره هو في الحقيقة يمارس أخلاقا وإن كان أخلاقا أنتجها الخوف من القانون الذي يحس بأنه مطبق بشكل واضح وعادل. علينا ألا ننتظر أن نتطور أخلاقيا وعندنا بيئة اجتماعية منفلتة نظاميا، وعلينا ألا نبقى نوجه اللوم للأفراد، وبالأخص شريحة الشباب ونتهمهم بأنهم أجيال فوضوية وأن ممارساتهم غير منضبطة، ونحن قد فشلنا في توفير البيئة الاجتماعية المنضبطة بقوانين وأنظمة واضحة ومطبقة بالكامل. صحيح أننا نحلم بأن تكون أخلاق الإنسان منبعها من الداخل، لأن هذه الأخلاق هي التي ترتقي بالإنسان كإنسان وهي أخلاق أقوى وأدوم بقاؤها واستمرارها، لكن ليس هناك طريق أفضل للوصول إلى هذه الغاية من أن يكون عندنا مجتمع تكون فيه السيادة للأنظمة والقوانين، فالمجتمع المنضبط قانونيا هو القادر على أن يقدم للإنسان الفرد البيئة التي يتدرب فيها على الأخلاق الحسنة. بعد هذا الحديث المختصر عن الجانب الخفي لمشكلة السياقة عندنا نأتي لعناصر المشكلة وأول عنصر مهم هنا هو السرعة، فالسرعة تتفرع منها كل المشكلات المرورية التي نعانيها، فمقياس عدد الحوادث والوفيات والإصابات والتلفيات كلها ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بمعدل السرعة التي نسوق بها، فلو أنقصنا معدل السرعة سنلاحظ بالتأكيد انخفاضا في كل هذه الأعداد، وهذا ما أكدته التقارير الأولية التي أصدرتها إدارة المرور بعد فترة وجيزة من تطبيق نظام "ساهر" في العاصمة الرياض. ومشكلة السرعة في داخل المدن أخطر بكثير من خارج المدن. وإذا لم يكن هناك انخفاض في معدل السرعة عندنا فسنبقى نراوح في مكاننا، وستبقى مشكلاتنا المرورية على حالها. وأول جانب في هذه المشكلة أن السائق ليس عنده وعي بأن مقدرته على التحكم في السيارة تتناقص مع زيادة السرعة، وهذا ليس له علاقة بكفاءته وخبرته في السياقة. تصرف السيارة كآلة يخضع لقوانين علمية في حركتها والسرعة هي عامل مؤثر جدا في عمل هذه القوانين، وبالتالي فالسائق لا يستطيع أن يمنع النتائج المترتبة على هذه القوانين إن تغيرت مدخلاتها. أما الجانب الآخر في هذه المشكلة فهو أن السائق لا يعير بالا للمكان والظروف التي يسوق فيها، فكل الأمكنة وكل الأزمنة والظروف عنده سواء، فهو يريد أن يسوق داخل المدينة بسرعته نفسها خارج المدينة ولا يريد أن يخفض سرعته في مناطق العمل وفي الشوارع التي تحيط بالمدارس والمستشفيات ومراكز التسوق، التي يجب أن تكون لها مراعاة خاصة بها من ناحية السرعة. حتى الأنظمة هنا تتراخى ولا يوجد هناك حرص على تذكير السائق بالسرعة المحددة في هذه المناطق ولا يوجد هناك ما يشير إلى أن قيمة المخالفات ستتضاعف لما لهذه المنطقة من خصوصية. أما العنصر الآخر من عناصر المشكلة فهو عدم اعتبار السياقة بالأمر الجدي، وهذا جعلنا نغض البصر عن الكثير من الممارسات التي تظهر عدم الجدية في السياقة، فاستخدام الجوال في أثناء السياقة والتدخين والأكل والشرب والسماح للأطفال بالسياقة وإتاحة الفرصة من دون ضوابط للتدرب على السياقة في الشوارع، كل هذه الأمور تزيد من حالة عدم الانضباط في شوارعنا ويجب علينا أن نجتهد في أن يكون هناك وعي عام بأن السياقة ممارسة جادة تتطلب من الإنسان السائق قدرا كبيرا من الانتباه والتركيز، وأن تكون هناك قوانين صارمة تفرض على الإنسان السائق عدم القيام بممارسات تظهر عدم جديته وتقلل من تركيزه في قيادته للسيارة. أخيرا، نقول وبكل أمانة إننا سننجح في تحجيم أزمتنا المرورية وتقليل كل ما يتبعها من مشكلات إن استطعنا فعلا أن نؤطر السياقة بإطار أخلاقي مدعم بقوانين تطبق بشكل كامل وعادل، فليس من المعقول ولا من المنطق أن تكون ممارسة السياقة فرصة للبعض للتعبير عن كل ما عنده من عقد نفسية يعانيها، وليس من المقبول أن نتراخى في تطبيق الأنظمة المرورية المتعارف عليها عالميا وصارت من المسلمات للسياقة في أغلبية دول العالم ومن ثم نريد أن نحل مشكلاتنا المرورية، المطلوب الجدية ليس من السائق فقط، فالجدية مطلوبة أيضا ومهمة في توفير بيئة مرورية منضبطة.
إنشرها