الاستبداد.. هل له وجود حقيقي؟

لا أريد أن أنزلق بالقارئ إلى الحديث عن موضوع فلسفي، لكن كلمة الاستبداد وكأي مصطلح آخر ولد أو أنتج لنفسه ثقافة ولا بد لنا من تفكيكها لكشف ما فيها من مفاهيم ومعان متحيزة لخدمة المستبد وإعطاء المشروعية لوجوده وبقائه في المجتمع. المستبد يريد أن يخلق لنفسه وجودا في أذهان الناس ومن ثم يقيم على هذا الوجود كيان سلطته على أرض الواقع، وبالتالي فمتى ما انتفى هذا الوجود في الأذهان تفككت سلطته في الخارج. الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها وننطلق على أساسها في التعامل مع الاستبداد أنه ليس هناك وجود حقيقي للمستبد على أرض الواقع، وبالتالي فالصراع معه لا يحسم إلا بمواجهته في داخل أنفسنا، ومتى ما انهزم هناك اختفت صورته من أمامنا. وقد يظن البعض أن الاختفاء مرهون بتمزيق صور الاستبداد في المجتمع، لكن هذا غير صحيح، لأن بقاء الوجود الذهني للمستبد قادر على أن ينتج له صورا جديدة يدفع بها لتنتصب أمام أعيننا من جديد.
لكن السؤال الذي نحاول الإجابة عنه في هذا المقال هو أولا عن حقيقة هذا الوجود الذهني، وثانيا كيف بمقدور هذا المستبد أن يقيم له وجودا في أذهاننا؟ لكن قبل الشروع في الإجابة عن هذين السؤالين لا بد لنا من الوقوف عند نقاط عدة مهمة. أولا أن معركة الإنسان مع الاستبداد معركة وجود لأنها معركة من أجل استعادة الإنسان لزمام نفسه، فكلما كان هناك استبداد كان هناك فقدان جزء من حرية الإنسان وتتسع مساحة الاستبداد باتساع غياب الحرية والعكس صحيح. وعلى هذا الأساس نجد أن المستبد أول ما يبدأ به من عمل هو قمعه الحريات، وعندما يكون هناك تهديد حقيقي لسلطته فإن أول ما يعد به مجتمعه هو توسيع هامش الحرية المعطاة للناس، لكنه سرعان ما يتراجع عن الوعود بزوال الخطر عنه. ثانيا أن الاستبداد ليس خطره فقط في الظلم والاعتداء على حقوق الناس، إنما أيضا في فساد أخلاقهم، فالمستبد يجتهد في إفساد الذوق الأخلاقي عند الناس لأن هذا يشعره بالأمان أكثر. فساد الأخلاق يفكك المجتمع ويبعثر قواه وطاقاته ويجعله مشغولا بنفسه، فمثل هذا المجتمع يكون في صراع دائم يحرمه من أن يتكامل بنفسه، وهذا ما يريده المستبد. مقياس هزيمة المستبد تحدد بمقدار عودة الفضائل والأخلاق الحسنة عند الناس وعندما لا نجد تحقق مثل هذا الأمر فلنتأكد أننا نعيش في مرحلة انتظار ولادة أو قدوم مستبد جديد. وثالثا أن الاستبداد يراهن كثيرا على وجود حالة الخوف عند الناس ويجتهد كثيرا في تغذية هذا الخوف ويرتعد كثيرا بتراجعه في نفوس شعبه، فالمستبد يعرف حق المعرفة أن هيبته ليست بسبب حب الناس له واحترامهم لمكانته، بل بسبب خوفهم منه، وما دام هذا الخوف باقيا في النفوس فإن المجتمع لا يجرؤ على الخروج من طاعته. والمشكلة التي تقلق المستبدين كثيرا أن الخوف قد يهزم نفسه، فتصاعد الخوف عند الناس بالمزيد من الظلم والقمع قد يخلق في عالم اللاوعي شجاعة قد لا يحس بها الإنسان نفسه، لكن هذه الشجاعة التي يغذيها الشعور بالكرامة، الذي هو شعور متأصل في نفس الإنسان الذي لا يمكن أن يفقده بالكامل مهما كانت حالة الذل والامتهان الذي يعيشه، هذه الشجاعة تتراكم بسبب الخوف المتصاعد لتخرج دفعة واحدة فتزلزل عرش المستبد. ورابعا أن الاستبداد دائما يحيط نفسه بأساطير، ومهمة الأساطير في حرف فهم الناس طبيعة الحياة. ولهذا فإن المستبد يعتمد كثيرا على الإعلام بشتى صوره ونجده يجند خيرة رجاله وحاشيته لإنتاج أساطير جديدة حول نفسه وتكريس الأساطير القديمة أو استبدالها بأفضل منها. فلا غنى للمستبد عن الأساطير وأحسن الأساطير هي تلك التي ترتفع بقداسة هذا المستبد في نفوس الناس، والمشكلة مع الأساطير أن الناس قد لا يصدقونها، لكنهم قد لا يكون بمقدورهم التخلص من تأثيرها في سلوكهم وعلاقتهم بالمستبد.
بالنسبة للمطلب الأول، وهو حقيقة وجود المستبد في أذهان الناس، فهذا الوجود وجود غير حقيقي يحصل عند الإنسان عندما تكون هناك منطقة فراغ في نفس الإنسان لم يصلها النور الإلهي أو الفيض الرباني. فوجود الإنسان يرتقي ويترسخ كلما امتلأت نفس الإنسان بهذا النور، وكلما انحسر هذا النور من نفسه خلف وراءه ظلمة نفسية، وهو فراغ يزيد من استعداد هذا الإنسان لتقبل وجودات مزيفة، فالمستبد يبني وجوده وبنيانه الزائف في هذه المناطق الفارغة والمظلمة من نفس الإنسان. أما كيف يتنور الإنسان بنور الله وكيف تظلم نفسه فهذا يرتبط بمقدار تجلي الصفات الإلهية المقدسة عند الإنسان، فتجلي كل صفة من هذه الصفات الربانية تجلب من هذا النور الإلهي فتزيده نورا فيرتقي في وجوده، وعندما يمتلئ هذا الإنسان بهذا النور المقدس يصبح إنسانا ربانيا لا يمكن لأحد أن يستعبده. فالإنسان الجاهل يحرم من النور الذي يجلبه العلم، وهذا الحرمان ينتج له ظلمة تتيح للأوهام والخرافات والأساطير أن تنسج لها وجودا مزيفا ينهار ويتفتت بنور العلم. وأحد أهم أركان وجود المستبد في أذهاننا هو الجهل ولهذا يلجأ المستبد إلى تغييب الحقائق والاجتهاد في نصرة الخرافات والأساطير لأن في هذا بقاء لمساحة من الظلام في نفس الإنسان، وهذا الظلام ضروري لبناء جزء من وجوده في أذهاننا. تجلي الصفات الربانية في نفوسنا بمقدار ما تزيدنا نورا فإنها تقربنا من الله - سبحانه وتعالى - وبمقدار ما يضعف هذا التجلي في النفوس ينحسر هذا النور فنزداد بعدا عن الله - سبحانه وتعالى - وبمقدار ما يتحقق هذا القرب والبعد من الله يتأرجح وجود الإنسان الحقيقي في نفس الإنسان، فابتعاد الإنسان عن الله وعن نوره يخسره جزءا من وجوده الحقيقي.
وبهذا المفهوم نفسه نفهم الاستبداد ونفهم أن وجوده وجود مزيف لأنه يتوالد ويخلق في المنطقة التي ليس فيها وجود حقيقي للإنسان. طبعا عندما نتكلم عن الاستبداد كظاهرة اجتماعية فإننا نتكلم عن مقدار تنور هذا المجتمع بالنور الإلهي وبمقدار تمظهر الصفات الإلهية في هذا المجتمع والتمظهر لهذه الصفات هو الذي يحدد مقدار ما عند هذا المجتمع من نور وقد يكون عندنا مجتمعا ما عنده وسائل الهداية التي تمكنه من الحصول على هذا النور، لكنه قد لا ينتفع بها فيبقى في ظلامه الدامس. فالمستبد تبدأ هزيمته كلما امتد وجود الإنسان وانحسرت وتقلصت مساحات الظلام في داخله من خلال التقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - وتتم هذه الهزيمة بالكامل على يد الإنسان الرباني. فالاستبداد ليس فيه تمظهر للصفات الربانية وبذلك فهو يفتقر إلى الوجود الحقيقي، فالظلم والقهر والقسوة والفساد والتعدي على الحقوق كلها صفات تقضم من وجود الإنسان، وكلما ازداد هذا الإنسان من ممارسته هذه الصفات ازداد خواء، وقد ينتهي به الأمر إلى شكل أو مظهر لوجود غير موجود. ولذلك فالمستبد كلما انغمس في استبداده ازداد ضعفه وقربت نهايته، والتاريخ يشهد بأن معظم المستبدين سقطوا وانهاروا في الوقت الذي كانوا يشعرون فيه بأنهم في قمة قوتهم وسيطرتهم، لكن هذا الشعور بالقوة شعور مزيف، لأن الحقيقة أن الاستبداد كلما كثر يضعف من وجود صاحبه، وبالتالي فالمزيد من الاستبداد يعرض المستبد ونظامه للانهيار بسرعة عندما تحين لحظة المواجهة الحقيقية مع من كان يستبدهم ويمارس عليهم ظلمه وعدوانه.
أما عن المطلب الثاني وهو كيف لهذا المستبد أن يقيم له وجود في أذهاننا، من الصعب الإحاطة بكل جوانب هذا الموضوع في هذه المساحة الضيقة من الكتابة، لكن هناك جانبين مهمين يلجأ إليهما ربما أغلبية المستبدين في الماضي والحاضر ومستبدي المستقبل لتكريس وجودهم في أذهاننا. يعرف المستبد أن الله مصدر الوجود، وأن كل الموجودات تستمد وجودها بفضل ما تتلقاه من فيض إلهي، وكلما قل هذا الفيض قل وجود هذا الموجود، فالمستبد يريد أن يعوض بعده عن مصدر الوجود بتوهم أنه بإمكانه أن يستقل بنفسه وأن يكون مصدرا لوجود نفسه ووجود الآخرين، فالمستبد هنا يريد أن يتأله وأن يحاكي الله في صفاته. ففرعون لما طغى قال أنا ربكم الأعلى ومثل هذا القول قاله الكثير من المستبدين من أمثال فرعون. وليس بالضرورة أن يعلن المستبد ألوهيته بشكل علني، لكن عند فحص سلوكياته نجدها تعبر عن نزعه للتأله، فالمستبد ومن خلال تأليه نفسه ينجح إلى حد ما إن يصنع له وجودا وإن كان غير حقيقي في أذهاننا وفي نفوسنا، والمشكلة أن الناس وبغير وعي يعتادون القيام بممارسات تكرس من اعتقاد المستبد بألوهيته، وهذا السر ربما في بقاء المستبد في موقعه مدة طويلة. أما الجانب الثاني في هذا المطلب وهو أن المستبد وإن كان يفتقر إلى وجود حقيقي إلا أنه يغلف نفسه بقشرة سميكة من الأوهام والأساطير حتى يشعر الناس بأنه قوي، والمشكلة أن من يتكفل بإنتاج هذه الأساطير هم الناس الذين يفترض فيهم أن يدحضوا هذه الأوهام والأساطير بالحقائق والمعرفة الحقة، لكن المصلحة والمنفعة الشخصية انحرفت بهم عن جادة الصواب وجعلتهم أداة في يد المستبد ليستخدمها في بناء سلطته.
أخيرا يمكن القول إن الوعي بحقيقة الاستبداد يزيل الكثير من الغشاوة التي تحجب رؤية المستبد على حقيقته، فالكثير منا لا يتصور أن المستبد إنسان يعيش الخوف أكثر من الخوف الذي يريد الناس أن يعيشوه، والكثير لا يتصور أن المزيد من الظلم والاستبداد تعجل بانهيار سلطة هذا المستبد، لأن المسألة ببساطة أن هذا الظلم وهذا الاستبداد يأكل من وجود هذا المستبد، وكلما ازداد هذا التآكل في وجوده ازداد ضعفه وقربت نهايته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي