الإدارة العامة توجه.. وإدارة الأعمال تجدف

هناك فرق بين الإدارة العامة كتخصص يعنى بتنفيذ السياسات العامة للدولة وبناء المؤسسات التنموية وتخصص إدارة الأعمال الذي يهدف إلى تعظيم الربحية، ويدور في فلك ضيق من المصالح الذاتية. وهذا فرق جوهري لا يدركه الكثيرون حتى أولئك المتخصصين وأصحاب القرار. فراحوا متحمسين تستهويهم إنتاجية وكفاءة القطاع الخاص ينادون بتحويل مسؤولية صناعة القرار إلى رجال الاأعمال وتقليص دور الحكومة في المجتمع، وما علموا أنهم يخلطون بين الأهداف والإجراءات، فالفاعلية وتحقيق التأثير الاجتماعي شيء وكفاءة الانتاج شيء آخر، فالأولى معنية بوضع أهداف مطلوبة اجتماعيا والسعي إلى تحقيقها جلبا لمنفعة أو درءا لمفسدة، والأخرى تركز على إجراءات رفع الإنتاجية وتعظيم الربحية بغض النظر عن المنافع والتكاليف الاجتماعية. كما يغفل البعض دور الحكومة في تنمية وتطوير المجتمع ضبطا وتنظيما وإقامة لمشاريع البنى التحتية، لذا تتفاوت الأمم بتقدمها وازدهارها ورقيها بمستوى نظامها الإداري العام. إذ إن نظام الإدارة العامة يحدد درجة تفاعل الأفراد والمؤسسات والموارد وتوظيفها بكفاءة وفاعلية من أجل تحقيق الإنتاجية والرفاهية الاجتماعية والارتقاء بالمجتمع وتوسيع مساهمته في الحضارة الإنسانية. فقرارات وسياسات الإدارة العامة تشكل الرؤية المشتركة وتحقق المصلحة العامة، وهي في الوقت ذاته تهيئ المناخ العام من أجل صناعة القرارات الخاصة سواء الاستهلاكية أو الاستثمارية. التنمية الاجتماعية نتاج قدرة القطاع العام على توفير خدمات عامة مميزة تطور الأفراد وتعزز إنتاجيتهم وترفع سقف توقعاتهم وتحرك الموارد، لذا فإن أداء القطاع الخاص مرهون بمستوى أداء القطاع العام. لكن ثمة حقيقة تتعلق بطبيعة القرار العام مقارنة بالقرار الخاص وهي البطء وانخفاض مستوى الكفاءة. والسبب يعود إلى أن عملية القرار العام تخضع لمعايير سياسية وإجراءات بيروقراطية طويلة تتم فيها مراعاة الجوانب الاجتماعية على حساب الجوانب الاقتصادية.
الإدارة العامة تواجه تحديا كبيرا يتمثل في الاستجابة للاحتياجات والتوجهات المتعددة في المجتمع وربما المتضادة في بعض الأحيان وفي الوقت ذاته محاولة التوصل إلى صيغة توافقية ترضي جميع الأطراف وليس بالضرورة قرار يعظم المنفعة لكل فئة من فئات المجتمع. هذه الخاصية في صناعة القرار العام تقلل من فرصة تحقيق رضا جميع المواطنين، فهو أمر شبه مستحيل، إلا في حالة واحدة افتراضية وهو أن يتساوى الناس في تفضيلاتهم وأذواقهم ويكون هناك إجماع على نوعية وكمية وتوزيع الخدمات العامة. بطبيعة الحال عدم رضا الجمهور يترجم إلى انخفاض إنتاجية القطاع الحكومي، وهذا ما يجعل أداء الإدارة العامة محل انتقاد دائم على الرغم مما يبذل من موارد وجهود. لا يقف الأمر عند هذا الحد بل إنه يؤدي إلى تصورات خاطئة وسلبية عن الإدارة العامة كممارسة وكحقل معرفي، وربما هذا ما يجعل سباقا محموما نحو ما يسمى الخصخصة أو الأكثر تطرفا منح القطاع الخاص دورا أكبر في صناعة القرار في المجتمع وتقليص دور القطاع العام. وهذا خطأ كبير ترتكبه كثير من الدول، أفرز كثيرا من المشكلات والأزمات الاجتماعية مثل الفقر والجريمة وتدني مستوى الخدمات، كما أنه يقود نحو تزاوج السلطة والمال وسوء في توزيع الموارد. لقد كان من المفترض والحال كذلك البحث عن وسائل وأدوات جديدة وابتكار طرق ترتقي بأداء الإدارة العامة وليس تقليل دورها أو التخلي عنها، فهذا أمر مستحيل، فلا إدارة أعمال من دون إدارة عامة، بل لا مجتمع من دون إدارة عامة.
دون إدارة عامة فاعلة لن يكون هناك انضباط عام ولا صحة عامة ولا تعليم ولا طرق ولا بنى تحتية تنطلق منها التنمية. الإدارة العامة هي اليد الظاهرة التي تنظم المجتمع وتحقق مصالحه العامة وتوجهه نحو مستقبل أفضل في مقابل آلية السوق اليد الخفية ذات الكفاءة العالية في الإنتاج، إلا أنها تعتمد على سعي الأفراد في تحقيق مصالحهم الخاصة وحسب، حتى إذا ما سنحت فرصة للاحتكار أو الغش ظهر الوجه السيئ للمتعاملين في السوق من رجال الأعمال المستثمرين ولا يستطيع لجمهم وإيقافهم عند حدهم آنذاك إلا الإدارة العامة التي تدافع وتنافح عن المصلحة العامة وتحفظ لجميع المواطنين حقوقهم وتمنعهم من تعدي بعضهم على بعض. لذا كان من الغريب العجيب ألا يهتم لأمر الإدارة العامة والسعي نحو تطويرها ممارسة ودراسة وبحثا وتعليما، فبدلا من أن تتحول أقسام الإدارة العامة في الجامعات إلى كليات للدراسات الحكومية، نجد أن هناك حربا شعواء تشن على تلك الأقسام التي يراد تقليصها أو إقفالها واستبدالها بكليات لإدارة الأعمال على الرغم من أن القطاع الخاص ما زال يقتات على المعونات والدعم الحكومي. وهذا أمر في غاية الخطورة، إذ إنه يمس الأمن الوطني، فهناك حاجة إلى الارتقاء بالخدمات والأنظمة العامة واحتواء المستجدات ورصد الرأي العام ومقابلة تطلعات المواطنين، وهذا يتطلب جسما معرفيا ومهارات مهنية ودراسات متخصصة في الإدارة العامة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تعويض ذلك بدراسة إدارة الأعمال ظنا أنه يمكن تطبيقها في بيئة الأعمال الحكومية، فشتان بين الدوافع والحوافز وطبيعة صنع القرار في الإدارة العامة التي تسعى إلى تحقيق المصلحة المجتمعية واحتساب المنافع والتكاليف الاجتماعية غير المباشرة والخفية، وتلك المتعلقة بالمؤسسات والشركات الخاصة التي يكون همها تعظيم الربحية الخاصة أولا وأخيرا.
إن الاهتمام بالقطاع الخاص على حساب القطاع العام ضد منطق الأمور، وهو بمنزلة تقديم العربة على الحصان، خاصة في دولة نامية مثل السعودية يسهم قطاعها العام بأكثر من 70 في المائة من الإنتاج الوطني وتسعى حثيثا إلى التحول إلى دولة أكثر تقدما وتحضرا وتحتاج إلى التخطيط وبناء المؤسسات. لذا سيظل تطوير القطاع العام شرطا أساسا للانطلاق والتقدم وليس القطاع الخاص الذي يتبعه ويحتاج إلى توجيه استراتيجي، فالقطاع العام - في جميع دول العالم - يقود الاقتصاد الوطني وليس العكس، حتى في الدول الرأسمالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما. والمتتبع للتطور التاريخي للمعرفة الاقتصادية ونشأة المجتمعات يجد أن الاقتصاد السياسي المعني بالإدارة العامة لاقتصاد الدولة وإصدار السياسسات المالية العامة ظهر قبل نظرية اقتصاد السوق. الفرق الذي يجب أن ندركه هو أن الإدارة العامة توجه والقطاع الخاص يجدف، ولذا عندما أخفق القرار الحكومي الأمريكي أفرز الأزمة المالية، وعندما فشلت البيروقراطية التونسية في إحقاق الحق ثار التونسيون طلبا لحقوقهم الخاصة، وعندما تم بيع القطاع العام المصري للقطاع الخاص تحقيقا للخصخصة وأهملت الإدارة العامة وتعقدت إجراءاتها انكسر النظام.
ربما كانت إدارة الأعمال أكثر كفاءة وإنتاجية، لكن ذلك لا يكفي، فهناك حاجة إلى توجيه الإنتاج في إطار من السياسات والخطط العامة تضمن التكامل وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمجتمع، فلو ترك المجدفون في السفينة دون توجيه لحارت السفينة في مكانها أو سارت في الاتجاه الخطأ حتى إن كانوا يؤدون مهمتهم بنشاط وتفان. الإدارة العامة هي البوصلة التي توجه الأنشطة الخاصة وتهيئ البيئة الصحيحة لتحقيق المصلحة العامة التي تعود بالنفع على الجميع، وإذا كان هناك قصور في الإدارة العامة فيفترض السعي إلى تطويرها وأولى الخطوات بتحويل أقسام الإدارة العامة إلى كليات للدراسات الحكومية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي