Author

أيهما أولى: المبادرة للإصلاح أم تسوّل التصالح؟

|
مشكلة العقل العربي السياسية هي المكابرة. لا يريد أن يقرأ النتائج كما هي على أرض الواقع؛ ولا يريد الاعتراف بالحقائق، ولا يريد أن يترك لنفسه خط رجعة، وإنما يريد أن يبني في عقول أبنائه للهزيمة انتصارا، وللظلم عدالة، وللفساد نزاهة. يسوّق الوهم سنة بعد سنة وجيلا بعد جيل، سوق حرة لأرباب المصالح، وتجار النفاق والتزلف. النقد في هذه الذهنية خيانة عظمى تستوجب العقاب. لا يُطرب هذا العقل إلا ما وافق هواه من الآراء، لا يريد سماع رأي مخالف وإن علم يقينا صواب ذلك الرأي، نفوره من الخلاف فطري يفسد كل القضايا. لم تصدق هذه العقلية أن العالم ينفتح على نفسه بشكل ليس له مثيل في التاريخ، وأن ملايين الناس يتواصلون في العالم من خلال شبكات اخترعها طلاب جامعة هم الآن وزراء إعلام العالم؛ حيث يغيب الناس عن حضور حفلة النشرات الإخبارية الرسمية ويتجمهرون حول مقاطع الهواة في مواقع الإنترنت. انفرجت زاوية الرؤية وتعددت عدسات "المترائين"، وبقي هذا العقل لا يرى إلا من ثقب أضيق من سمّ الخياط. يتغير العالم وتبقى عقلية المكابرة في برجها السلطوي، لا يعنيها من أمر التغيير أو الإصلاح إلا ما تجود به الكلمات والخطب. لا تريد هذه العقلية أن تبادر إلى أي إصلاح حقيقي يمس جوهر مشكلات الناس وهمومهم، والمستقبل وتحدياته. تراهن على خبراتها في إخفاء الأزمات وتأجيلها؛ فكل عام ينقضي هو نجاح يستحق الإشادة، وكل عقد ينطوي هو رصيد للأمة وبناء حضاري يلجم الخصوم. عقلية المكابرة لا تثق بأبنائها، وعمومهم دهماء لا يؤخذ من قولهم ولا يرد. تصطفي هذه العقلية من أرادت لما أرادت وقتما أرادت. يصبح المصطفون أخيارا وأهل حل وعقد، يؤخذ قولهم ولا يرد، بهم تصلح الأمة، وتزدهر التجارة، ويجيء الحق، ويزهق الباطل. ليست صناديق الاقتراع في عرف ذهنية المكابرة إلا قدرا لا يجب الانتقاص من نسبته المئوية تحقيقا للكمال الذي ألفته دوما. لتختار الجماهير أو تقول أو تحجم، لن يطوي صحف الديمقراطية إلا لجنة للقبول تعرف خير البلاد والعباد وموازين النسب. عقلية المكابرة لا تغذيها دوما شجاعة سياسية للمبادرة بالإصلاح في زمن الرخاء؛ لأن الإصلاح في عرفها تنازل للخصوم، وتفريط في مكتسبات السلطة التي تقاطعت معها المصالح والصلاحيات. لا يحين وقت الإصلاح إلا إذا تقطعت بهذه العقلية السبل، وبلغت روح البقاء السياسي حلقوم الكرسي؛ فتتسول التصالح بزعم الإصلاح عندما يكون الأمل قد فات. ما كان مستحيلا أصبح ممكنا؛ حيث تغيرت في النائبات ملامح المشهد كلية. لم تعد التحديات التي تواجه العقل السياسي العربي كما كانت، وما كان في سنن التاريخ دهرا أصبح بسبب وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي أياما معدودة. ربما تنقلت عربة بائع جائل بين فصول التاريخ؛ تحكي قصة حدثت بات كل أطرافها في ذمة التاريخ. ولكن، من يضمن ألا تخرج في عالمنا العربي عربة جديدة لبائع جائل أو مشترٍ جائل؟
إنشرها