زمالة المدمنين المجهولين (2 من 2)

* تابع مقال الأمس..
ومرّتْ سنوات ..
وكادتْ ذكرى صديق الفضاء الهارفاردي تـُطمَسُ تحت كثبان الذكريات .. حتى كان يوم تجمع الفرق التطوعية العاملة على الأرض، للتنسيق حول نشاطات ''صيف أرامكو'' قبل أكثر من شهر، الذي اختتم أعمالـَه الأسبوع الماضي، وأعطى مقدّمُ حفلَ التجمّع حينها المهندسُ ''عمرو مدني''، وهو نائب رئيس المجلس التطوعي في ''جمعية العمل التطوعي'' دقيقة واحدة لكل فرقة كي يتحدث ممثلوها عنها ــ ما شاء الله، لكثرتهم ــ وأبدع الجميع..
حتى جاء صوتٌ عميقٌ من آخر القاعة، قبل أن ينهي عمرو فاصلَ التقديم .. والصوتُ العميقُ يقول: ''أنا لم أقدّم مجموعتي..''.
تنبّه عمرو إلى أن الجميعَ من المدعوين قدموا عروضَهم، فمعنى أن هذا غير مدعوٍّ .. على أن عمرو بكياستِهِ طلب منه التقدم، وسأله عن اسمه، فقال: ''محمد''.. وسأل عمرو: ''أكمل الاسم..'' على أن محمد أجاب: ''لا يمكنني، وستعرف السببَ إن مكـَّنتـَني من منصة التقديم .. وفسح له عمرو الطريق.
أخبرنا محمد بصوتٍ هادئٍ وثابتٍ ووقورٍ عن ''زمالة المدمنين المجهولين'' التي تشكّلـَت في بلادنا، وهي شبكة عالمية أقامها المدمنون المتعافون الذين لم ينسوا مَن يعاني كما كانوا يعانون .. وأخبرنا أنه هنا لرسالة، والرسالة فهمناها دون أن يصرِّح بها، لأنه كان يقول ويؤكد أنها مجموعات ذاتية تطوعية لا تقبل هللة واحدة من متبرع، لا مكان لها، لا مناسبة لها، إلا ما يتطلبه الظرفُ والحاجة. وشرح لنا كيف أنهم نجحوا كثيرا في معافاة المدمنين، ومنهم الآن الأطباءُ والمهندسون ورجال الأعمال (ورأيتُ بعضهم، بل صار لي شيءٌ مثل الوسواس القهري، حيث تتبعت الأسماءَ وزرتهم في عياداتهم في مكاتبهم في متاجرهم في أكبر مدن المملكة، وعرفتُ عقولاً كما قلنا في المقال السابق، تـُكالُ بذهبِ الخام النقي، الذي أتي بعد عنصر خامل .. وكأن الخيمياءَ علمٌ صار مُثبتاً، بل الذي صار أكثر من ذلك). نعود لمحمد.. محمد قليلُ الحركة، ثابتٌ إلى حد السَّمْتِ الصارم، بسمتُه محسوبة بالمليمتر، ترى على وجهه ذكريات، لا يقولها ولكنها تنتفضُ على ملامحِهِ، وكأنك ترى كتاباً تنثـُرُ الريحُ صفحاتـَه وتتطاير منه الحروفُ جُمَلاً مقروءةً كأعمدةٍ من نور.
قال لنا إن النجاح لزمالة المدمنين في شفاء المدمنين يكاد يكون مضمونا بعون الله ـ حسب تجاربهم ـ ويخبرنا كيف يستقبلون المدمنين الخارجين من مستشفيات ''الأمل'' بحالاتهم، وأنهم نجحوا معهم، ويتابعون كما قلنا بالقانون الذي سميناه ''طقسُ الزمالة'' وهو أهم طقوس هذه المجموعة، وتأكدوا أن كلّ معافى مشى في سبيل حياته فردا عاديا مكتملا بين الجموع (وضُجّتْ القاعة بالتصفيق).
وشرح لنا محمد كيف أنهم لا يطلبون معونة ولا تدخلا ولا رفدا لأنه عمل شخصي بينهم وأنه لا يتطلب إلا مكان اجتماع دوري .. (ووعدناه أن هذا سيوفـَّر لهم في أي مكان في المملكة) ولكنهم يرحبّون بمناسباتهم بالعلماءِ والناصحين المتمرّسين والمتخصصين إن أرادوا، على أنهم لا يقدمون الدعوات. رفع محمد رأسه للجميع وأطل بهم مليّا، وسادَ صمْتٌ كأنه صمتُ الخرافة ذاتها، ثم قال: ''ما أسعدَكم بعقولكم .. لا تفرطوا فيها أبدا..'' ثم التقط نفـَسا ليبوح ما بنفسه: ''فأنا يوما فرَّطتُ، نعم، أنا مدمنٌ سابق!''
وكأن الصمتَ في القاعةِ ازدادَ صمْتاً.
ثم التفت محمد إلى المهندس عمرو مدني، وقال له: ''أعرفتَ الجواب الآن يا أخي؟ هل عرفتَ لماذا لم أصرح باسمي كاملا؟ أنا من زمالة المدمنين المجهولين''.
وانفجرت القاعة بالتصفيق، ورأيت فيه ما صورهُ خيالي الملتهِبُ بأن الناسَ الطبيبين ملائكة على الأرض كل بجناحٍ واحد، ومتى التأموا طاروا بأجنحةٍ عديدة بسماءٍ اكتملتْ بالجمال تومض فيها نجيماتُ وأقمارُ وشهُبُ الإنسانية في خلاصة محبتها ومجدها ووجودها.
إن ''زمالة المدمنين المجهولين'' تنقـّي نخاعَ الأمّةِ من أشرس سوسةٍ تأكل ذاك النخاع .. واكتمَلـَتْ أجنحتُهم وطاروا للعلياء بعد أن حبستهم قيعانُ الظلام لسنين، ولكنهم لما ارتفعوا لما ينسوا غيرهم .. ومن فوق، من سماء النقاء، أشرقوا شموساً على الجميع.
اللهم في هذا الشهر الكريم خذ بأيديهم، ووفقهم فيما يريدون، وأكثر لهم الجزاء، وأكمل مسيرتهم، واجعلهم من صفوةِ عبادك .. فهم جماعة أحبّوا عبادَك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي