ملك ومشايخ فتوى لا لبس فيها

«بارك الله فيكم وفي علمكم وأعانكم على التصدي لأفكار الفئة الضالة وبيان كلمة الحق فيها ومن ساندها»... تلك كانت كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز موجهة إلى هيئة كبار العلماء في ختام خطاب إلى سماحة مفتي الديار السعودية شاكرا للهيئة بيانها الأخير بشأن فتوى تحريم تمويل الإرهاب في جلستها العشرين الاستثنائية بتاريخ 25/4/1431هـ في مدينة الرياض حيث أصدرت قرارها رقم 239 وتاريخ 27/4/1431هـ الذي جاء فيه أن الهيئة نظرت في حكم تمويل الإرهاب، باعتبار أن الإرهاب جريمة، جريمة تستهدف الإفساد وزعزعة الأمن والجناية على الأنفس والأموال والممتلكات الخاصة والعامة كالمساكن والمدارس والمستشفيات والمصانع والجسور ونسف الطائرات وخطفها والموارد العامة للدولة كأنابيب النفط والغاز، ونحو ذلك من أعمال الإفساد والتخريب المحرمة شرعا، وأن تمويل الإرهاب إعانة عليه وسبب في بقائه وانتشاره كما نظرت الهيئة في أدلة على تحريم تمويل الإرهاب من الكتاب والسنة وقواعد الشريعة (...) لذلك كله فإن الهيئة تقرر أن تمويل الإرهاب أو الشروع فيه محرم وجريمة معاقب عليها شرعا سواء بتوفير الأموال أو جمعها أو بالمشاركة في ذلك بأي وسيلة كانت.
إن ما صدعت به هيئة كبار العلماء في تحريم تمويل الإرهاب وتوجيه خطاب شكر من خادم الحرمين للهيئة مثمنا لها ما توصلت إليه لا يمكن أخذهما معا إلا على أنهما صدرا عن حرص عميق وثيق الصلة بحماية النفس البشرية التي كرّمها الخالق وأموال العباد وأملاكهم وثروة البلاد وأمنها واستقرارها، تلك الحماية التي تنطلق في الأساس من تعاليم الدين الإسلامي القويم الذي جاء أمنا وسلاما وهداية للعالمين، لذلك وجهت القيادة إلى ضرورة أن ينهض الموقف من تمويل الإرهاب (الذي تنبذه أصلا وتمجه الفطرة) على أسس عقدية يعلن الرأي فيه والحكم بفتوى من قبل أهل العلم الشرعي والمختصين فيه المؤتمنين على إشاعة الحق والعدل والمحبة والأمن وعلى تبيان الرأي والحكم الشرعي فيما يشكل عدوانا عليها بشكل أساسي مثلما هو الأمر في سائر المجالات والمصالح الاجتماعية والاقتصادية وكل ما يعكر صحيح الدين فما بالنا بما هو فادح وفساد في الأرض كالإرهاب وتمويله.
إن قرار هيئة كبار العلماء المتضمن الفتوى المحرمة لتمويل الإرهاب قد يثير التساؤل حول توقيته وأهميته؟ وهذا تساؤل وجيه، لأنه قرار جاء - كما يبدو - متأخرا عن زمنه، لكن حيثياته ومفاعيله الشرعية والإجرائية في الواقع سبقت الإشارة إليها في عدد من مرئيات وأحكام وفتاوى الهيئة وتمت الاستنارة بها والاسترشاد بظلالها في عديد من المواقف التي مرت بها المملكة في منازلاتها زمر الإرهابيين على مدى السنوات الماضية فقد كان أصحاب الفضيلة في قلب تحمل المسؤولية يزودون ولاة الأمر بما يخص رأي الشرع في كل ما طُلب إليهم وعلى النحو المعهود عن أصحاب السماحة والفضيلة من سداد وحكمة، توخيا للحق أيا كان الموقف بقلوب مفعمة بصادق اليقين والإيمان وبنفوس شديدة الورع والتقى.
إذا.. فالتوقيت، ليس ابن يومه وإن كان لم يصدر إلا قبل أيام.. فقد كان بحكم تحصيل الحاصل، أو هو في حيازة الهيئة علما واطلاعا ودراسة وتصورا ورأيا، غير أن تصاعد وتنوع ما يثار من لغط حول تمويل الإرهاب ونزوع بعض الذين في قلوبهم مرض إلى محاولة تبرير التمويل خلطا للسم في العسل تحت زعم الجهاد أو ما شابه ذلك من تخريجات عرفناها من تدليس جماعات الغلو والتطرف، وبالتالي محاولة إشاعة هذه المزاعم التي قد تحدث لبسا على من قد يغرر بهم إما لسذاجتهم وإما لجهلهم، أو قد تستغل المزاعم على أنها من صحيح الدين طالما أنه لم يصدر بشأنها فتوى تعلن بقرار بوزن ثقيل وجوهري كقرار هيئة كبار علماء السعودية فإن ذلك سيظل مدعاة للاصطياد في المياه العكرة وممارسة التضليل والافتراء. وهكذا.. فالفتوى التي صدرت في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما عاد بالإمكان الإفلات منها على نحو من الأنحاء.. فقد جاء القرار ليعلن على الملأ، ليس في السعودية أو أقطار العروبة، بل في جل العالمين الإسلامي والغربي ما يشكل شطبا لكل تلك المزاعم وفي الوقت نفسه حكما شرعيا من قلب وطن مهبط الوحي يحرِّم تمويل الإرهاب بأي شكل أو بأي صلة مثلما يحرِّم الإرهاب نفسه صغر أم كبر.
إن حرص القيادة السعودية على أن يكون موقف السعودية صادرا عن علم شرعي وعن فتوى بصيرة كما عبرت عنه كلمات خطاب خادم الحرمين الشريفين للهيئة الذي ثمَّن فيه قرار العلماء الذين بدورهم أنفذوا توجيهه الكريم في النظر في هذه القضية في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة .. إن هذا الحرص يقدم نموذجاً في العلاقة بين القائد والعلماء تنطلق من تقاليد إيمانية تكرست في هذا الوطن عبر عمق التواصل بين القيادة وأهل العلم والمشورة كل في اختصاصه، وفي الصدراة دائما أصحاب الفضيلة الشيوخ والعلماء.. الذين سجلوا للتاريخ كلمتهم في فتوى لا لبس فيها في تحريم تمويل الإرهاب كيفما كان وحيث يكون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي