اختيار مستوى الحد الأدنى للأجور

يميل الاتجاه العام على مستوى العالم إلى تفضيل وجود حد أدنى للأجور لدوره في تحسين بيئة العمل, خصوصاً للفئات العمالية الأقل حظاً. ويبرز تساؤل مهم حين التطرق لقضية الحد الأدنى للأجور عن اختيار مستواه المناسب. حتى عند التسليم بأهمية تطبيقه فإن الآراء تختلف في تحديد مستوياته. فما الحد الأدنى الذي يرفع من دخول أكبر شريحة من منخفضي الأجور دون أن يؤثر بقوة في مستويات التوظيف؟ وعلى كل حال ينبغي عند اختيار مستوى الحد الأدنى من الأجور تجنب رفعه كثيراً فوق المستويات التوازنية لأجور العمالة غير الماهرة، وكذلك تجنب وضعه تحت المستويات التوازنية لأجور العمالة غير الماهرة. فلو كان الحد الأدنى للأجور أعلى بكثير من الأجور التوازنية فإنه سيؤثر بلا شك في مستويات التوظيف ويرفع مستويات البطالة. وعلى الطرف الآخر فإذا كان الحد الأدنى للأجور منخفضاً جداً فلا جدوى منه ولن يكون له أي تأثير.
وقبل اختيار مستوى الحد الأدنى للأجور ينبغي أولاً توفير معلومات تفصيلية عن مستويات الأجور وعدد العاملين, خصوصاً عند أسفل مستويات الأجور. ومع وجود شح في المعلومات المتوافرة عن مستويات الأجور في المملكة إلا أن بيانات وزارة العمل تشير إلى أن متوسط الأجور في المملكة خلال عام 2008 في القطاع الخاص يقل عن 1400 ريال في الشهر (16.8 ألف ريال في العام). وفي حالة صحة هذا الرقم, وأرجو ألا يكون صحيحاً, فهو يدل على انخفاض مريع في مستويات الأجور التي يدفعها القطاع الخاص مقارنةً بمتوسط الناتج المحلي للفرد الذي يتجاوز 70 ألف ريال للعام نفسه (يمثل متوسط الأجور 20 في المائة فقط من الناتج المحلي للفرد). ومتوسط الأجور هذا يعني أن أكثر من نصف العمالة تتلقى أجوراً تقل عن هذا الأجر. ولهذا فهناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في السياسات المتعلقة بالأجور, حيث ينبغي النظر بجدية إلى اتخاذ إجراءات فاعلة لرفع مستويات الأجور لتنسجم مع مستويات الناتج المحلي، ومن أهم الإجراءات الممكن اتخاذها في هذا المجال فرض حد أدنى للأجور. من جهةٍ أخرى ينبغي ألا تكون مستويات الحد الأدنى للأجور بعيدة جداً عن مستويات الأجور التوازنية للعمالة منخفضة التأهيل, خصوصاً في بداية تطبيقها ولتفادي الصدمات القوية في الاقتصاد. وأعتقد أن مستويات الأجور التوازنية للعمالة منخفضة المهارة في القطاع الخاص لا تبتعد كثيراً عن متوسطات الأجور، حيث تقبع أجور أعداد كبيرة من العمالة عند مستويات متدنية لسنين طويلة. ويبدو أن فتح أبواب الاستقدام من الخارج أدى إلى وجود جمود مزمن في مستويات الأجور, بل تراجعها في بعض الأحيان.
وتقترح بعض التعليقات السابقة لعدد من القراء الأعزاء للمقالات السابقة عن الحد الأدنى للأجور وضع حدود معينة له. وقد اقترح أحد القراء وضع حد أدنى للأجور للعمالة السعودية يبلغ خمسة آلاف ريال سعودي في الشهر. وأعتقد أن هذه المستويات تبتعد كثيراً عن المستويات التوازنية لأجور العمالة غير الماهرة في القطاع الخاص، ومن الصعب بل من شبه المستحيل فرضها في الوقت الحالي. وفرضها فقط للعمالة السعودية يعني بصورة عملية توقف القطاع الخاص عن توظيف السعوديين ذوي المهارات المنخفضة، وفي هذا إهدار لفرص توظيف أعداد كبيرة من السعوديين في القطاع الخاص. ولهذا فإن فرض حد أدنى للأجور ينبغي أن يكون موحداً لجميع أنواع العمالة بعض النظر عن جنسيتها. ويمكن التمييز في مستويات الحد الأدنى للأجور على أساس مناطق التوظيف, فمستواه في الرياض ربما يختلف عنه في المناطق النائية بسبب انخفاض تكاليف المعيشة في تلك المناطق, ويمكن أن تساعد مستويات أقل للحد الأدنى للأجور تلك المناطق على جذب بعض الفاعلين اقتصاديا وخفض معدلات البطالة المرتفعة فيها. ويمكن أيضاً التمييز في مستويات الحد الأدنى للأجور حسب القطاعات الاقتصادية أو القطاعات التي تتلقى دعماً حكومياً مباشراً أو ضمنياً. فقطاعات التعليم تتلقى دعماً مباشراً وغير مباشر من الحكومة كما أنها تتطلب توظيف كفاءات معينة. وفرض حدود دنيا للأجور في قطاع التعليم مثلاً يجبر ملاك المؤسسات التعليمية على توظيف كفاءات أقدر على التعليم. ويتقاضي عديد من العاملين في مهنة التدريس في القطاع الخاص أجوراً تقل من ألف ريال أو 1200 ريال في الشهر ولمدة تسعة أشهر فقط في السنة. ويمكن أيضاً فرض حدود دنيا لأجور بعض المهن كالأطباء لمنع توظيف منخفضي الكفاءة, وفي هذا حماية لصحة عموم السكان.
إن مستويات الحد الأدنى للأجور في البداية يمكن أن تكون متدنية لكن ينبغي أن تحسن أوضاع نسبة لا تقل عن 10 إلى 20 في المائة من العمالة. وتحديد مستويات الأجور للشريحة المتدنية الأجور تتطلب دراسات ميدانية عن مستويات الأجور والمنافع ونسب العمالة المتلقية للأجور. وقد نفاجأ بأن نسبة ليست قليلة من العمالة تتحصل على أجور تقل عن ألف ريال مثلاً في الشهر. وقد لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور في البداية ألف إلى ألفي ريال في الشهر. ويمكن تحديد أجور أعلى لقطاعات التعليم والصحة للحد من الابتزاز الواضح لأصحاب العمل للخريجين والخريجات الجامعيات. ويمكن للدولة المساهمة في رفع دخول أصحاب الأجور المنخفضة السعوديين من خلال تسديد مستحقات التأمينات الاجتماعية أو توفير تأمين صحي لعائلاتهم أو حتى توفير بعض الدعم المادي المباشر المرتبط بالعمل لتشجيعهم على الحصول على وظائف والاستمرار فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي