غاب عائلهم فلنأخذ بأيديهم

لأن المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك، قال تعالى: (مُحَمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم..) الفتح: آية 29، وقال تعالى واصفاً المؤمنين (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) البلد: آية 17، ويصف الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، وذلك في قوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى». وعن أنس ــ رضي الله عنه ــ أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ولعظم قيمة التراحم عد رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي لا يرحم البشر عموماً من الخاسرين، ففي الحديث: «خاب عبدٌ وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر». ومن هذا الأساس الذي يحث على التراحم والرحمة تقوم رعاية السجناء والمفرج عنهم في مجتمعنا، حيث الالتزام بتعليمات دينهم الحنيف الحاثة على التراحم والتواد.
الحديث عن رعاية السجناء وأسرهم يتطلب الإشارة إلى انعكاساتها على الأسرة. وبلا شك فإن الرعاية سواء كانت حكومية والانعكاس لا يتوقف فقط على حماية أفراد الأسرة من الانحراف ونشوء منحرفين منها، بل يمتد أيضاً إلى ما يقوم به المجتمع بشكل عام سواء الهيئات الحكومية أو الأهلية لرعاية أسر السجناء، كما ينعكس كذلك على الاستقرار السليم داخل الأسرة ويجعل أفراد الأسر منضبطين ويتقبلون التعليمات واللوائح والأنظمة، كذلك ينعكس الأمر على برامج الرعاية والتأهيل داخل الأسر.
من خلال مشاركتي في ندوة نفذتها (اللجنة النسائية لرعاية أسر السجناء والمفرج عنهم), في المدينة المنورة تحت هذا العنوان مساء السبت 25 ذو الحجة الماضي, وكانت هناك مشاهد واقعية عن الآثار السلبية التي تطول أسر السجناء أو المفرج عنهم من خلال نظرة المجتمع بشكل عام إليهم وكأنهم مذنبون.
هذه المشاهد أكدت ما أوضحته عديد من الدراسات عن أسر السجناء أو المفرج عنهم. التي أكدت أن أسرة السجين هي إحدى الأسر التي تتعرض نتيجة سجن عائلها لعدد من المشكلات الاجتماعيـة والنفسية والاقتصادية, التي تؤدي إلى حدوث ضغوط متزايدة تسهم في انهيار تلك الأسرة وعدم تماسكها, كما أن هناك الكثير من التغيرات والآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية المرتبطة بالإيداع في السجن, تلحق بالأسـرة وتحدث خللا في بنائها ووظائفها, ولا سيما إذا كان السجين هو عائل الأسرة، لأن غياب الأب عن الأسرة يسبب عديدا من المشكلات الأسرية والاجتماعية, التي تؤدي إلى تصدع كيان الأسرة وتفككها وانهيارها, مما قد ينتج عنه ظهور بعض الانحرافات والسلوكيات الشاذة خاصة من طرف الأحداث, نظراً لغياب الرعاية المادية والاجتماعية الكافية في حال غياب أحد الوالدين.
بالطبع المجتمع لا يمكن أن يتجاوز عن جرائم الناس بسبب التعاطف مع مصلحة الأسرة، لأن في هذا مدعاة لمزيد من فساد الفرد. ولهذا نجد أنه حينما يسجن عائل الأسرة، هناك عدد من الآليات مختلفة لدعم الأسرة والوقوف إلى جانبها. وأصبحت بعض المحاكم في الدول الغربية تصدر توجيهات برعاية الأطفال ودعم الأسرة فوراً في حالة سجن الأب وإنشاء جمعيات ومؤسسات تهتم بدعم الأسر. ومن ناحية المحافظة على مؤسسة الأسرة وحمايتها من التفكك، يجب على المجتمع أن يحرص على تقديم الدعم والرعاية والمساعدة لأسر السجناء بما يكفل ضمان استقرارهم والتكيف مع الظروف الطارئة التي وقعوا فيها بسبب سجن عائلهم. لأن رعاية أسرة السجين هي مسؤولية دينية ووطنيـة, لا بد أن تقوم جميع مؤسسات المجتمع المدني وهيئاتـه الحكومية والأهليـة بالاهتمام والرعاية بهذه الشريحة المهمة من المجتمع.
ومن بعض نتائج دراسة حديثة للباحثة نورة الجعيد حول أهم المشكلات التي تواجهها أسر السجناء في مدينة جدة نجد أنها تتضح في معاناة أسر السجناء فيما يتعلق بالأبناء في حالة سجن والدهم وهي: تسكع الأبناء في الشارع حيث أتت في المرتبة الأولى، يليها تشرد الأبناء لأن زوجات السجناء يعانين عدم القدرة على ضبط وتوجيه الأبناء، ثم لجوء الأبناء إلى تدخين السجائر في المرتبة الثالثة، في حين جاء تمرد الفتيات في المرتبة الرابعة، يلي ذلك لجوء الأبناء إلى السرقة.
- أما الأثر السلبي لسجن الأب على الوضع المدرسي للأبناء فتمثل في تعرض الأبناء للنظرات السلبية من قبل زملائهم الطلاب, ثم تدني المستوى التحصيلي للأبناء, يليه الانقطاع عن التعليم. أما نتائج سجن الأب على الزوجة, فقد اتضحت في شعور الزوجة بالوحدة في مواجهة متطلبات الأسرة, ثم شعور الزوجات بمعدل حرمان كبير وضعف بالأمان العاطفي, صعوبة تواصل الأبناء مع والدهم المسجون، حيث إن كثيراً من النساء أخفين عن أبنائهن خبر سجن الأب والبعض لم يخبرن أبناءهن بطبيعة أو حقيقة القضية التي سجن فيها الأب، بل إن بعض الآباء هو من يرفض زيارة أبنائه. من النتائج التي لفتت نظري أن نحو (62 في المائة) من المبحوثات طالبن بالطلاق عقب دخول الزوج السجن ولم تتضح الأسباب لذلك. كما كان واضحا من النتائج تدهور الحالة النفسية للأبناء وسوء حالتهم والشعور بالقلق والإحباط, وشعور عديد من أفراد الأسرة بالعار والفضيحة جراء سجن الأب. ثم تعرض أسرة السجين لعديد من أنواع الاعتداء والاضطهاد من قبل المجتمع الخارجي كالنظرة السلبية من قبل الآخرين والطرد من المنزل.
ومن المعاناة التي تواجه أسر السجناء أن رعاية الأسرة خلال فترة قضاء الأب عقوبة السجن تقع على عواتق الزوجات ثم يليهن أحد الأبناء أو والد الزوجة, وأن (40 في المائة) من أسر السجناء تعتمد على الضمان الاجتماعي بشكل أساسي, في مقابل ذلك هناك نحو (13 في المائة) من أسر السجناء تعتمد على مساعدة بعض الأقارب. وأغلبهم يعيشون في أحياء شعبية ومساكنهم بالإيجار ونحو (34 في المائة) من أسر السجناء يسكن معهم أقرباؤهم بصورة دائمة وأن (16 في المائة) من هؤلاء الأقرباء يحتاجون إلى النفقة، مما يعني زيادة الأعباء على أسرة السجين.
هذه النتائج تزداد قتامة من خلال ما كشفت عنه الدراسة حول طبيعة الوضع الاقتصادي لأسر السجناء المتمثل في أن أغلب الأسر تعتمد اعتماداً كلياً على رب الأسرة قبل دخوله السجن, وأن (90 في المائة) من أسر السجناء تعاني تدني المستوى المعيشي, ومعظم الأسر لا تستطيع توفير الحاجات الأساسية وتوصف بأنها فقيرة وأغلبيتها لا تمتلك السكن.
تلا هذه النتائج مشكلات أخرى مثل انقطاع الهاتف لعدم القدرة على سداد الفواتير, وعدم توافر وسائل مواصلات, وكذلك المعاناة من عدم القدرة على الذهاب للمستشفى, وانتشار البطالة بينهم.
هذه النتائج تتطلب الاهتمام أكثر بإعانة هذه الأسر خصوصا مع ارتفاع مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار، وأن بعض المساعدات من الجمعيات تكون في فترات زمنية محددة. ورغم أهمية دور اللجنة الوطنية لرعاية أسر السجناء والمفرج عنهم في تقديم الرعاية الاجتماعية لأسر السجناء إلا أن النتائج أوضحت أن (50 في المائة) من أفراد العينة لا يعلمون عنها ولا عن دورها.

** اتكاءة الحرف
من خلال زيارة قصير إلى المدينة المنورة بناء على الدعوة التي وصلتني من رئيس لجنة رعاية أسر السجناء والمفرج عنهم عبد الله المخلف للمشاركة في ملتقى الأسبوع السادس لرعاية السجناء في المدينة تحت اسم (تراحم), وبرفقة رئيسة اللجنة النسائية زينب هوساوي لزيارة أخرى لسجن النساء في المدينة, ومقابلة مديرة السجن الأخت إيمان مددين والأخوات العاملات معها, اطلعت على الجهود المتميزة التي تقدمها اللجنة النسائية والتعاون بينها وبين إدارة سجن النساء. مما كان له الأثر الطيب في نفوس السجينات ومتابعة أحوال أسرهن. والأهم أنه من خلال فعاليات النشاط في تلك الأمسية تعرفت عديد من الأخوات على واقع أسر السجناء, وأوضحن أنهن لم يكن يعلمن عن هذه المعاناة. إذا هنا يبدو واضحا بل مهما تفعيل هذه اللجان في المجتمع كي يسهم الجميع في احتواء هذه الأسر ولا نزيد من معاناتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي