أبالِسَةُ الإنترنت، وطيورُ الجنـَّة

.. هل مررتَ بشعور مؤذٍ كهذا؟ الشعورُ بأن يأتي أحدٌ يتلمس منك معونة، أن تفعل أي شيء من أجله لأنه بأقصى الحاجة إليها، بل كأن حياته نُفِخ فيها الريح من كف الحياة فطارت إلى النهاية، أو إلى شيء أقسى، وهو الضياع بلا نهاية.. وأنت تعلم كل العالم أنك من المستحيل أن تفعل شيئا مباشرا لإنقاذ اليد الممتدة تريد الحياة. وفي الوقت ذاته يعلم صاحب الحاجة أنك لا تستطيع، بل إن ذلك يستحيل، فإذا هو نشيج متبادل من الألم والقهر والعجز..

ولكني أنا مررت.

وكانت مكالمة، تميزت فيها غضبا من موضوعها، وأنا عاجزٌ كليا حيالها. أتاني الصوتُ حارّا، متهدجا تارة، وباكيا ساكنا مذعنا تارة أخرى. كانت الأنفاسُ تتلاحق ترفعها الشهقاتُ العميقة، وكان الكلامُ يجيشُ، وأنا لا أدري هل هو الكلام يسبق الأنفاس، أم هي الأنفاسُ تحبس الكلام؟!

.. كان صوتاً نسائياً، سيدة ربما، أو آنسة، وكانت تحملُ رسالة ومن تداعياتِ ألمِها وحرقة قلبها خمَّنتُ أن القضية تخصها أو تخص من هنّ عزيزاتٍ عليها، على أنه بالنسبة لي شأنٌ عامٌ يمس أياً من بناتِنا.. أيّ ذات عفاف وكرامة وحياة لا بد أن تعاش، ومسقبلٍ لا بد أن يُعَدّ له . كان الصوتً يفورُ وكأنه يتصاعد من مرْجلٍ يغلي، ولم يطفئه انبثاقُ الدموع..

كانت تغصّ بهذا القهرِ العظيم من استباحةِ الشريفات في قذارات الإنترنت، لقد أغمي على واحدةٍ من صديقاتها كما قالت وما زالت مسجاة في المستشفى لما وجدت في بريدها الإلكتروني صورا خائبة لأجساد متخلعة بالعري والسماجة، ورُكِّبت على هذه الأجساد صور للفتاة وصديقاتها، وتصرخ محادثتي، وتغلظ في الأيمان بأنها لم تصور صديقتها، ولا من معها صورا في مكان عام أبدا. وهي صورٌ غاية في الخصوصية ولا تعلم الفتياتُ كيف وصلت خارج خصوصيتهن .. ولم يكتف المجرمون بإرسال الصور الماجنة لبريد الفتيات وإنما كانت موزّعة على عشرات العناوين.. وتقول محدثتي "لقد توقفت حياتنا عند ذلك الموقف، ولن تـُحسَب لنا حياة بعد ذلك..".

والبنات اللاتي خرجت صورهن بالإنترنت هن بناتُ أسَرٍ كريمة مثل أي بنت في مجتمعنا تخاف على أخلاقها كما نود أن نصون نحن هذا الخلُق .. وتعرضن بخطأ ما (وهذا ما أعدت تأكيده على محدثتي رغم آلامها، فالصور لا تخرج من الحرز المكين إلا بالتساهل في إخراجها أو منحها، حتى لمن تعتقد أنهن من الثقات، فعندما يخرج المحروسُ من حرزه .. فلن يحرسه بعد ذلك أحد!) هذا الخطأ قـُدِّم على صحن من ذهبٍ لحفنةٍ قذرةٍ ومنحلّةٍ وعابثةٍ ومعبأةٍ بحمأةِ الشرّ، ليعيدوا فبركتها بخيالٍ مريضٍ مسلول، ويضعونها سفاحاً في أكثر الأماكن فضحاً في زمننا، ساحاتُ الإنترنت السائحةِ كالهواءِ في الدنيا بلا حدود..

نعم، هو التطاولُ الكاذب، والختيلة الجبانة، والغدرُ الدوني .. أن تُلاك سمعة الناس الذين يحافظون عليها بالدم والمواثيق والمبادئ والأخلاق.

هؤلاء الفتيات كريماتُ المقصد، رفيعاتُ السلوك، ولكن خطأ ما حصل، في خروج الصور، حتى لو خرجت لأوثق الثقاة، أو تتبادلها الفتياتُ بينهن على مواقع الإنترنت الشهيرة مثل"ماي سبايس" أو "الفيس بوك".. لأن مستغلي هذا الغطاء الإلكتروني المتربصين الحاقدين على الإنسانية لا يغفلون، فجمرةُ الشرّ لا تجعلهم يسكنون. نصفهم بهذا الأوصاف لأن دأبهم أن يشهِّروا، وأن يتجنّوا، وأن يحطموا أزهارَ الحياة.

أقول للفتياتِ اللاتي عنتهن محدثتي المرتعشة الصوت، المحترقة الإحساس، ولكل من يتعرضن لمثل هذه الظروف أن يُعِدْنَ رباطةَ جأشهن، وأن يتطلعن للحارس الأعظم فوق السماء، فأنتن إن شاء الله لم تمسكنّ إلا نسائمُ الطهر.. ولا واجب عليكن إلا المثابرة على صيانةِ النفس، والتغلب على قهرِ الحدث، وألا يهزمكن الفاعلُون المتجنون، الآثمون إلى يوم الدين.

أدِّينَ واجبكن أمام الله في هذا العهدِ الموثق في أعلى المعالي، وسِرْنَ على هَدْي نبيه عليه أفضل الصلوات والسلام، وأكْمِلن حياتكن غير عابئاتٍ إلا بالاتعاظ من هول التجربة، وأسرّ لكنّ شيئا مهماً: "لا يمكن لأحدٍ أن يصدق، ولا في الخيال، أن يكون هذا فعلٌ تقمن أنتنّ به.." نعم، لن يصدّق أحد.

أما، بعد ذاك، فمن يصر على الاستمرار في لومكِن، فهو لا يختلف كثيرا عن الآثمين!

آن أن نسلم أنفسَنا لرحمة الإله، فلا لجوء إلا إليه، وسيحميكن الله، وهو سيمدكن بالثقة لإكمال الحياة رغم ما جرى، ورغم ما سيجري. فنحن لا نملك أمراً ولا قيداً على الإنترنت، ولكن تواصلنا مع الله سيحمي ضعفنا، ويقوّم عجزَنا، وقلة حيلتنا، ثم الحرص على عدم التفريط في أية معلومةٍ شخصيةٍ خاصة كي لا تجرفها أمواجُ المحيط الافتراضي إلى أبعد الجزر والشطآن.

وتبقى هؤلاء الفتيات، رغم أبالسةِ الإنس والإنترنت عفيفات نقيات.. مثل طيور الجنة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي