كيف نعرف اتجاهات النخب العربية تجاه قضايانا الجديدة؟

لا تكاد تنتهي القائمة الطويلة للقضايا التي تشغل اهتمامات النخب العربية وتعبر عنها بكل الوسائل التي تملكها وفي مقدمتها مختلف الوسائط الإعلامية المكتوبة والمرئية والمسموعة والإلكترونية. وخلال الأعوام الـ 60 السابقة ظلت القضية الفلسطينية هي الثابت شبه الوحيد الذي لم يتغير في تلك القائمة التي زاد طولها وأضيفت إليها قضايا جديدة تراوح مكانها فيها بين التقديم والتأخير. وخلال السنوات الثماني الماضية عرفت تلك القائمة تزايداً ملحوظاً في عدد القضايا التي أضيفت إليها وباتت تشغل اهتمام الرأي العام العربي والنخب المعبرة عنه والتي راحت بدورها تبلور مواقفها منها عبر الوسائط الإعلامية المشار إليها، فقد ظهرت قضية الإرهاب وارتباطه بالإسلام وقضية غزو العراق وغزو أفغانستان والحروب الإسرائيلية على لبنان ثم غزة وقضية الدور الإقليمي لإيران وطموحها النووي، وغيرها من قضايا إقليمية وداخلية تفاوتت أهميتها من بلد عربي إلى آخر.
وعلى الرغم من الجهد الهائل الذي بذله أعضاء تلك النخب العربية في عرض مواقفهم من تلك القضايا الجديدة وشرح حججهم وأسانيدهم لاتخاذ هذه المواقف، فقد ظلت المكتبة العربية خالية تقريباً من أي جهد علمي منظم لإعادة تصنيف وقراءة وتحليل اتجاهات النخب العربية نحو كل من تلك القضايا عبر ما نشروه حولها في مختلف الوسائط الإعلامية. وقد كان من الاستثناءات القليلة في هذا المجال الدراسة التي أصدرتها مؤسسة أسبار السعودية حول "اتجاهات الكتاب السعوديين والمطبوعات السعودية نحو الحرب على العراق"، في عام 2004 والتي سعت لأن ترسم صورة متكاملة للطريقة التي تعاملت بها الصحافة المكتوبة في السعودية مع تلك الحرب بمختلف الجوانب والقضايا التي ارتبطت بها. كما سعت الدراسة الموسعة التي شارك فيها فريق كبير من الباحثين إلى الكشف عن التغيرات التي طرأت على مواقف وآراء الكتاب السعوديين والمطبوعات السعودية خلال فترة غزو العراق، وذلك عن طريق الرصد والتحليل الإحصائي العلمي لمقالاتهم المنشورة أثناء هذه الفترة.
وما يبدو اليوم جلياً في الواقع العربي هو غياب مثل هذه الدراسات التي تتكفل برسم الصورة الصحيحة والدقيقة للطريقة التي تفكر بها النخب العربية في تلك القضايا الجديدة وتقوم عبرها بتشكيل الرأي العام في بلدانها، وهو ما يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في صنع القرار السياسي فيها تجاه تلك القضايا. من هنا، فإن سعي المؤسسات الأكاديمية والبحثية إلى إجراء مثل تلك الدراسات يعد ليس فقط جزءاً من واجبها المهني الذي قامت من أجله بل وأيضاً واجبها الوطني والاجتماعي من أجل تعريف الناس ما يجري في عقول النخب التي تقودهم.
ولا شك أن مناهج علمية عديدة يمكن إتباعها من أجل الإنجاز الأدق لتلك الدراسات، إلا أن منهج تحليل المضمون يظل واحداً من أبرزها وأقدرها على الوفاء بالأهداف المنوط بها إنجازها، على الرغم من كل ما يرد إليه من ملاحظات علمية يعرفها المختصون. ومن المعروف أن ذلك المنهج هو الأكثر معرفة واستخداماً في الدراسات الإعلامية وهو يقوم على التصنيف والوصف المنتظم والمقنن للمضامين الظاهرة لما تنشره وتبثه وسائل الإعلام، وهو يفترض بطبيعته الاستعانة الكثيفة واللجوء المستمر إلى الأرقام والإحصائيات والأشكال البيانية والجداول. ولعل ما يعطي ذلك المنهج قدرته الأكبر على التحليل والوصول للنتائج الأدق وهو ما يفسر انتشاره في الدراسات الإعلامية هو استخدام قيامه على قاعدتين أساسيتين: أولاهما، أن يكون التحليل مقنناً، بمعنى أن يتم التحليل باستخدام متغيرات وفئات تحليل محددة ومعرفة، وأن تكون عمليات التصنيف وإجراءاته منتظمة لضمان الموضوعية وعدم تأثر النتائج بالتفسير والفهم الشخصي للباحث، وثانيهما، أنه يقصر تحليل المادة الإعلامية على معناها الظاهر وليس المعنى الكامن أو الخفي، فتؤخذ العبارات والكلمات بمعانيها الظاهرة فقط.
كذلك فمن أبرز خصائص هذا المنهج التحليلي هو أنه منهج بحثي "وصفي"، حيث يقف عند وصف المواد الخاضعة للتحليل ولا يذهب لأبعد من ذلك، فهو بطبيعته لا يفسر الدوافع ولا يوضح أسباب ظهور مضمون ما دون آخر أو بشكل ما دون غيره. ويقوم هذا المنهج على التحليل الإحصائي الكمي لمضمون المواد المنشورة ولكتابها بما يسمح في حالة استخدامه دراسة رؤى النخب العربية للقضايا الجديدة في وسائل الإعلام بالخروج بنتائج عامة حول المطبوعات وحول الكتاب أنفسهم، كما يتيح الفرصة لإجراء مقارنات عديدة عبر الفترات الزمنية وعبر المطبوعات وفيما بين الكتاب. كذلك يتيح ذلك المنهج الكشف عن عدد من التوجهات التي تظهر في المقالات التي خضعت للتحليل، كما يبين التفاوت بين المطبوعات وبين الكتاب أنفسهم والاختلافات في الرأي والتوجه إزاء مختلف القضايا أثناء تطورها الزمني.
ومن مميزات منهج تحليل المضمون أنه يسمح بإجراء مقارنات شكلية بين مضمون الكتابات التي يتم تحليها في الدراسة المراد القيام بها دون التطرق إلى سبر أغوار الكاتب ولا البحث في نواياه وما صرح وما لم يصرح به في كتاباته والأسباب الكامنة وراء ذلك. كذلك فمن مميزات هذا المنهج قدرته – بل وضرورته – في حالة إجراء دراسات واسعة على عينات كبيرة بما يشبه المسح، حيث يكون المطلوب في تلك الحالة هو التوصل لمؤشرات كمية حول المضامين التي احتوتها الكتابات والمقالات محل التحليل والدراسة، الأمر الذي لا يسمح به منهج آخر سواه. أيضاً فمن مميزات ذلك المنهج أنه يسمح بالتوصل لنتائج كمية لمضامين هي بطبيعتها ذات طابع كيفي، مثل المواقف والآراء، بما يسمح بالتعرف على تطورها عبر فترات زمنية مختلفة وبالمقارنة فيما بينها بسهولة وضمن فئات محددة وواضحة يتم وضعها وتعريفها من قبل القائمين بالدراسة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي