ما بين "حمّى الضنك".. و"حمّى الشركات المساهمة "!

<a href="mailto:[email protected]">abdullahbinmahfouz@gmail.c</a>

لوالدي, حفظه الله, مرعي مبارك بن محفوظ كتاب سماه "الصراحة من صدى المواقف" وهو مؤلف استمر في كتابته أكثر من عشرة أعوام. فكان يقيم كل موقف في الحياة العملية ويؤرخ صداها في المجتمع ثم يوجزها في مقال, والكتاب في مجمله يدور حول محورين هما أن الواقع العملي يختلف عن التنظير، وكذلك الحث على الثوابت والأخلاق السامية في العمل. ومقالي ليس عرضاً لكتاب والدي، ولكن محاولة إسقاط خلاصة الكتاب على ما يحدث حالياً في الساحة من حدثين يبدوان متناقضين وإن حملا الاسم نفسه، وفي النهاية يؤديان إلى نتيجة الكتاب نفسها، وهي أن "الواقع" دائماً وأبداً يختلف عن "النظرية"، مستندة إلى تجربة مواطن في العمل وعمره 14 عاما على أرض "الواقع" وليس في عالم "النظريات".
الحدثان المقصودان هما، "حمّى الضنك" و"حمّى الشركات المساهمة" بما فيها الشركات المساهمة العائلية، وهما العنوانان الأبرزان في الساحة، الأول في ساحة القطاع الطبي وما رافقه من تداعيات، والثاني في ساحة قطاع الأعمال وما شهدها من إعلان تأسيس نحو 15 شركة مساهمة تصل رساميلها إلى مليار ريال تقريباً.
أولا: حمّى الضنك، الذي أصاب الشارع الجداوي كثيراً من الخوف ما لبث أن تحول إلى هلع ورعب، جراء الأنباء التي تؤكد يوماً بعد يوم، أننا أمام مشكلة حقيقية في كيفية مواجهة المسبب الرئيس له، وهو "البعوضة". وكما تعودنا دائماً في مواجهة الأزمات، لا يجد البعض من المسؤولين سوى تبادل اتهامات التقصير لإظهار موقفه الصحيح والتنصل من المسؤولية. علماً بأننا جميعاً مسؤولون سواء كنا مواطنين أو في منصب المسؤولية. وهنا اتفق الجميع أخيراً أن المشكلة الرئيسة أن هناك عملا ينبغي إنجازه بدلاً من انتظار الحل، على خلفية المثل المعروف "لا تلعن الظلام... بل اعمل على إضاءة شمعة". وهنا شاهدنا لأول مرة في جدة سيارات رش المبيدات تنطلق في الشوارع والأحياء، خصوصاً الفقيرة، وشاهدنا استنفاراً كاملاً من الأجهزة ذات العلاقة في مقدمها أمانة جدة ووزارتا الصحة والزراعة. ومن المنطقي الإشارة هنا إلى أننا نتصف دوماً بـ "التحرك البطيء"، وكم أحوجنا إلى أن يكون هناك جهاز فاعل في كل الوزارات والمؤسسات الحكومية، يسمى "إدارة الأزمات"، وهي إدارة مهمة من الواجب التخطيط لها بفكر استراتيجي، طالما أننا سنعاني مستقبلاً استمرار انتشار الأمراض, فحدودنا البرية والبحرية تعتبر مفتوحة، ولعل أكبر مثال أن أزمة إنفلونزا الطيور لا تزال موجودة وخطرها كامن حولنا ما بين مصر والأردن ، وبدلاً من انتظار تسجيل أول حالة، ويصبح "خبراً عاجلاً" تتناقله وسائل الإعلام, يجب أن تتحرك الجهة المعنية مع القطاع الخاص الذي استثمر المليارات والعمل باهتمام بالغ بدعوة العم عبد الرحمن فقيه والشيخ طارق طاهر بمطالبتهما وزارتي الزراعة والصحة بالتنسيق مع القطاع الخاص محاربة هذا الخطر القائم, وكذلك توعية المجتمع إعلاميا وإعلانيا وبشفافية كبيرة مثل وزير الصحة المصري الدكتور حاتم الجبلي بأن عرض الواقع أمام المجتمع المصري واتخذ إجراءات صارمة وموجعة لصناعة الدواجن ولكنه حافظ على صحة الفرد والمجتمع. هنا نطالب بشرح أعمال الوزارة المعنية بهذا الشأن بدلا من دفع الشائعات ويصبح المثل مصائب قوم الدواجن عند قوم اللحوم فوائد ويخسر هذا القطاع المهم بسبب مرض لا وجود له لدينا.
ثانيا: بخصوص شركات المساهمة, أن سلطات وصلاحيات وزير التجارة والصناعة لتأسيس الشركات المساهمة، يشمل جميع أنواع الشركات، عدا التي تحتاج إلى مرسوم ملكي، وهي خمسة أنواع حددها نظام الشركات: ذات الامتياز، التي تدير مرفقاً عاماً، والتي تقدم لها الدولة إعانة، والتي تشترك بها الدولة غير التأمينات الاجتماعية ومصلحة معاشات التقاعد، التي تزاول الأعمال المصرفية. ومن حيث الاكتتاب في رأسمالها فإن الشركات المساهمة تنقسم إلى نوعين، هما: الأول شركات يكتتب المؤسسون فيها بجزء من رأسمالها والجزء الآخر يطرح للاكتتاب العام، وهذه لا يجوز أن يقل رأسمالها عن عشرة ملايين ريال، والثاني شركات يكتتب المؤسسون بكل رأسمالها، وهذه لا يجوز أن يقل رأسمالها عن مليوني ريال.
في شكل عام، يمكن الجزم بأن تأسيس هذه الشركات هو دلالة واضحة على "الثقة" التي يتمتع بها الاقتصاد السعودي، ولولا ذلك لما بادر المواطنون من المستثمرين ورجال الأعمال إلى دق أبواب وزارة التجارة والصناعة، طالبين التراخيص لشركات ستنفذ بالتأكيد مشاريع جديدة وتوظف كوادر بشرية، وستجري أيضاً حركة واسعة في فتح الحسابات التجارية، ومشتريات جديدة .. إلخ، ما يعني أننا مقبلون على حركة نشطة بسبب ذلك العدد من تأسيس الشركات المساهمة. بطبيعة الحال شركات المساهمة سوف تحدث دورة اقتصادية ثالثة في الوطن. ولا يمكن قبول, بأي حال من الأحوال, تفسير "الضوء الأخضر" لتأسيس الشركات المساهمة، أننا أمام ظاهرة أقرب إلى "الهرولة" و"الطفرة" في تأسيس الشركات المساهمة لأنها شركات قائمة من عشرات السنين وتحقق أرباحا أعلى بكثير من شركات موجودة في التداول الآن.
والمثير هنا تحديداً، أن إحصاءات رسمية صادرة من وزارة التجارة السعودية، توضح أن عدد الشركات المساهمة يبلغ 131 شركة حتى إحصائية عام 1425هـ وهي تساوي 1 في المائة فقط من إجمالي عدد الشركات، البالغ 13539. علماً بأن ذلك الرقم يشمل حالياً نحو 120 شركة مساهمة عامة، منها: 11 شركة في قطاع الأسمنت، 11 مصرفاً، 42 شركة في قطاع الخدمات، 43 شركة صناعية، عشر شركات زراعية، وشركتان في قطاعي الاتصالات والتأمين. وبحسب الإحصائية نفسها، تسيطر شركات "ذات المسؤولية المحدودة" على نسبة 70 في المائة منها بعدد 9518 شركة، تليها "التضامنية" بنسبة 21 في المائة وبعدد 2802 شركة، ثم شركات "التوصية البسيطة" بنسبة 8 في المائة وبعدد 1086 شركة.
في "حمّى الشركات المساهمة"، ينبغي تأكيد أن توقيع "معالي الوزير" السريع على قرارات تأسيس هذه الشركات، يحسب كثيراً له في هذه الفترة خصوصاً ، فهو يريد أن يدمج القطاع الخاص بالمجتمع والحفاظ على الكيانات الكبيرة من الانهيار بسبب الإدارة أو بسبب التركات, وإذا استعرضنا التاريخ نرى أن هناك شركات رائعة وناجحة ذهبت بسبب رحيل المؤسس. إن الوزير استثمر كل فقرات النظام والتعديلات والضوابط الأخيرة لتأسيس الشركات المساهمة أو حتى تحول القائمة منها إلى مساهمة إلى المصلحة العامة. علماً بأن الضوابط الأخيرة التي أعلنتها وزارة التجارة لتحول الشركات إلى مساهمة، أسهمت إلى حد كبير في الظاهرة الجديدة، وهي شروط أغلب الظن أن نحو 75 في المائة من الشركات ذات المسؤولية المحدودة تنطبق عليها, وهي: أن تكون الشركة طالبة التحول وصلت في السنة السابقة لطلب التحول إلى حجم وربحية ذات أهمية نسبية، بحيث لا يقل صافي أصول الشركة في تاريخ التحول عن 50 مليون ريال، وألا يقل العائد على حقوق الشركاء في أي سنة من السنوات الثلاث السابقة على التحول عن 7 في المائة، وأن تؤكد دراسة الجدوى أن العائد المتوقع لا يقل عن هذه النسبة في أي سنة من السنوات الثلاث التالية للتحول، ويجب أن تكون الشركة طالبة التحول قد مضى على إنشائها خمس سنوات على الأقل، ويجب على الشركة التي ترغب التحول إلى شركة مساهمة ذات أسهم مطروحة للاكتتاب العام أن تطرح ما لا يقل عن 40 في المائة من أسهم الشركة المصدرة، ويجب أن يكون لدى الشركة طالبة التحول الجهاز الإداري المؤهل القادر على إدارة أعمالها بفاعلية وكفاءة وأن تكون لديها رقابة داخلية فاعلة لضمان حماية صافي أصولها ولديها القدرة على المنافسة في السوق.
إن "حمّى الشركات المساهمة" في السعودية لا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إليها إلا من الجانب الإيجابي، ومن شأنها أن تنعكس إيجاباً على الاقتصاد السعودي وتمتد آثارها إلى سوق الأسهم أيضاً لإيجاد عمق جديد فيها، خصوصاً إذا انضمت إليها حصص الدولة في الشركات. لكن وعلى رغم ذلك، يمكن طرح سؤال مهم جداً، مفاده: أليس ما يحدث متأخراً بعض الشيء، إذ جرت في الأعوام الماضية محاولات باكرة لتأسيس الشركات المساهمة، ولعل قصة رجل الأعمال أحمد حسن فتيحي أكبر دليل على أن القطاع الخاص كان يسبق "الأنظمة" و"الوزارات" في مبادراته.
تجربة الشركات المساهمة وما يحدث فيها من "انفراج" كبير في الوقت الحاضر، يجب أن يكون درساً ليس فقط لوزارة التجارة والصناعة، بل يتعداه إلى جميع القطاعات ذات العلاقة بالنشاط الاقتصادي الداخلي، خصوصاً بعد النجاحات التي حققتها الهيئة العليا للاستثمار على الصعيد الدولي.
ختاما، إن نشاط اقتصاديات الدول و"ترمومتر" نشاطها، يقاس دوماً بالحركة الدؤوبة لتأسيس الكيانات الاقتصادية، خصوصاً أن معدلات شطب السجلات التجارية وتصفية الشركات سجلت انخفاضاً ملحوظاً خلال الأعوام الماضية بنسبة 40 في المائة تقريباً. وفوق ذلك كله، لا يمكن أيضاً إغفال دور الرقابة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي