أمريكا والعالم يحاربان الأزمة بإلغاء الربا (2 من 2)

بينا في العدد السابق بشكل علمي دقيق لماذا لا تستحق النقود عائدا (فائدة)؟ وما آثار الخلخلة والزعزعة التي تنجم عن عائد (فائدة) موجب (ة) على النقود؟ ثم بينا تطبيق ذلك على الأزمة المالية العالمية التي يمر بها العالم حاليا وما التغيرات التي تحدث حاليا في الأنظمة المالية الغربية وما نصيب ودور وتأثير المؤسسات والأدوات والأنظمة المالية الإسلامية في تشكيل هيكل جديد للأنظمة المالية العالمية وحدود هذا الدور في التأثير.
هذه الأزمة المالية والاقتصادية العالمية يمكن أن توفر محطة مهمة ينطلق منها وبعدها التطور في اقتصاديات العالم العربي والإسلامي وزيادة الوعي بأهمية المؤسسات القيمية للاقتصاد والتمويل الإسلامي. فهذه الأزمة تُكّبر وتوضح بشكل أكثر جلاء آثار تطبيق سعر فائدة موجب (الربا) على الاقتصاديات والمؤسسات والأسواق المالية. فسعر الفائدة الموجب يعمل في آن واحد على تخفيض كل من الطلب الحقيقي من السلع والخدمات (نتيجة لما يؤديه الحصول على الفائدة من دفع الاتجاه إلى الاكتناز والمضاربة) والعرض الحقيقي (نتيجة عبء الفائدة الذي يؤدي إلى ارتفاع التكلفة على المنتجين لتحمل تكاليف تمويل مضمونة مسبقا)، مما يترتب عليه بالضرورة انخفاض متوسط درجة استغلال وتوظيف الموارد الاقتصادية (البطالة).
هذه الفجوات بين العرض والطلب التي يخلقها وجود فائدة موجبة يفسر تعدد تكرار الدورات الاقتصادية في الأسواق والاقتصاديات الرأسمالية وانفلاتها وخروجها من السيطرة لتصبح كارثة وأزمة أحيانا كما يمر به العالم اليوم. ومن هنا يتبين أن الأزمة المالية العالمية الحالية ليست نتاج نظرية مؤامرة كما أنه لا يعود تفسيرها بالكلية إلى نظام تمويل معين أو أدوات مالية يساء استخدامها أو أخطاء محدودة من قبل بعض المديرين الماليين لمؤسسات مالية عملاقة أو ضعف أنظمة الرقابة على الأسواق المالية، وإنما تعود جذورها الأساسية الراسخة إلى السماح لمعدلات إيجابية الفائدة (الربا) في أسواق التمويل والادخار والاستثمار.. ومن هنا فهو نذير كوني إلهي للظلم العظيم الذي من آثاره ما يقع على الطبقات الكادحة من العمال والفقراء والطبقات المحدودة ومتوسطة الدخل من ظلم أصحاب رؤوس الأموال وملاك الثروات – قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) والآيات القرآنية المنذرة بالأخطار الاقتصادية وغير الاقتصادية كثيرة في هذا الباب.
وقد نادى المفكرون الغربيون أنفسهم ومنهم رواد وقواد المدارس الاقتصادية بضرورة إلغاء الفائدة مثل Keynes في المدرسة الكينزية وماركس MARX في الاقتصاديات الاشتراكية والشيوعية وغيرهم من أمثالهم كثير.
وقد طبقت بعض الدول العمل باقتصاداتها على فوائد منخفضة جدا أو صفرية لفترات زمنية طويلة كاليابان أثناء أزماتها الاقتصادية في التسعينيات الميلادية فكانت تتبع لسبع سنوات معدلات فائدة حول الصفر. ومع ذلك فإن هذه الأزمة المالية العالمية الحالية يمكن أن تعطي فرصا ذهبيه يخرج بها العالم العربي والإسلامي بتوجه جاد نحو تطوير أنظمته الاقتصادية والمالية بما يتواءم مع أسسه الثقافية والقيمية والاجتماعية ليوفر بيئة تعمل على تطوير استخدام مقدراته الاقتصادية وتخرجه من دوائر التخلف الاقتصادي والتبعية التقليدية المستهجنة لغيره من العوالم الغربية أو الشرقية التي عملت ولا تزال تعمل على تطوير أنظمتها ومؤسساتها بما يتوافق مع ثقافاتها وقيمها. ولكن المشكلة كل المشكلة هي في الشعور بالنقص والنظر إلى الآخر بنظرة الكمال من ناحية، ثم في جمود الأنظمة والمؤسسات الاقتصادية والمالية في دولنا العربية والإسلامية ممثلة في البنوك المركزية ومؤسسات النقد ووزارات الاقتصاد والتخطيط ومراكز البحث في الجامعات، من ناحية أخرى.
وقد يكون بعض مسؤولي كثير من أجهزتنا الإدارية ومؤسساتنا الاقتصادية وجامعاتنا على درجة كبيرة من الإخلاص والتفاني والتضحية ولكن ما لم تطور الأنظمة التي تدار بها هذه الأجهزة والوزارات والمؤسسات والجامعات وما لم ترق كوادرها الإدارية والعلمية وتعطى الحوافز والضوابط الكافية فلن تصبح فاعلة وكفؤا في أن تتبنى التطوير للأنظمة والسياسات والمبادرات لقيادة التغير والتنمية للحاق بركب الحضارة العالمية (والمبنية أيضا على أسس ثقافية وقيمية واجتماعية ) خاصة بها فيحصل الحراك للمجتمع في مجمله بتحرك هذه الأجهزة والمؤسسات الإدارية والعلمية حركة دينامية.
والحراك والدينامية تحصل أحيانا في مجتمعاتنا في بعض المؤسسات ولكنها تظل ليست حراك مجتمع فتصبح آثارها محدودة وثمراتها محصورة ووقتية. على سبيل المثال هناك جهود جبارة في مجال تطوير عدد الجامعات ومواردها المالية ومن ذلك ما تبنته بعض الجامعات كجامعة الملك سعود باستقطاب وترتيب كراسي علمية لمختلف التخصصات ومن ذلك الاقتصاد والتمويل الإسلامي ولكن التساؤل الذي يرد, ما درجة الاستفادة والتفعيل لهذه الموارد المالية والكراسي العلمية؟ وهل هناك ثمرات فعلية يتم العمل على تجهيزها حاليا؟ وكيف يمكن أن تفعل الكوادر العلمية في الجامعات لتتفاعل مع هذه الموارد المالية لتنتج منجزات ومخرجات نوعية وكمية مكافئة؟
وإذا سلطنا الضوء على أهمية تفعيل حراك قطاع بأكمله كالقطاع الاقتصادي مثلا فإن التساؤل يأتي إلى البنوك المركزية والمؤسسات المالية للبلدان العربية وفي مقدمتها مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة سوق المال السعودية ووزارة المالية ووزارة الاقتصاد: ألم يأن الأوان لهذه الأجهزة لكي تقود مسيرة المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي والاقتصاد الإسلامي وتعمل على إيجاد الأنظمة الكاملة لها والإدارات المستقلة والسياسات التي تجعل من دولنا ومجتمعاتنا رائدة ومبادرة وقائدة للتطور الاقتصادي والمالي الإسلامي الذي أخذت تبادر إليه دول أخرى عربية إسلامية (ماليزيا والبحرين) أقل من اقتصاداتنا موارد وإمكانات مالية واقتصادية وعلمية؟ أم نريد الانتظار لنترك المبادرات تأتينا من دول غربية (بريطانيا وفرنسا) تريد الاستغلال المادي والاقتصادي للمؤسسات والأنظمة المالية والاقتصادية الإسلامية؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي