آثار الأزمة المالية العالمية على البنك المركزي العراقي

د.ميثم لعيبي إسماعيل:

يرى البعض إن الأزمة المالية أثرت على الاقتصاد العراقي فقط من خلال الانعكاس الذي أحدثه انخفاض أسعار النفط في إجراء تخفيضات متوالية في موازنة 2009، وذلك باعتبار العراق ذو اقتصاد ريعي يعتمد على النفط في تمويل نفقاته، من هنا يرى هؤلاء إن للازمة انعكاسات على أدوات المالية العامة فقط، وان ليست ثمة آثار على الأدوات النقدية، ويذهب هذا الفريق ابعد من ذلك حين يؤكد إن عدم امتلاك العراق لسوق أوراق مالية متطور تربطه بالسوق الرأسمالي قد ابعد اقتصاده عن جملة الآثار الضارة التي واجهت العديد من الاقتصادات.
نقول إن الأزمة المالية إذ أثرت في العالم بأسره فان تأثيراتها على الاقتصاد العراقي هي أعمق من مجرد الآثار تلك، والسؤال الذي نطرحه هنا، هل إن الأزمة المالية ستؤثر وتغير من الرؤى المستقبلية للسلطة النقدية ممثلة في البنك المركزي العراقي؟
إن الإجابة عن ذلك تتطلب البحث عن أكثر من متغير يحاول المركزي السيطرة عليه، على إن واحدا من أهم تلك المتغيرات هو العملة المحلية وقيمتها، من هنا سنركز على محورين في هذا الصدد، أولهما يتعلق بنظام سعر الصرف المتبع، والثاني يرتبط بقرار رفع الأصفار الثلاثة المزمع القيام به مستقبلا.
نقول؛ وللإنصاف، إن المركزي استطاع إلى حد بعيد اختيار نظام صرف سليم، استطاع من خلاله المحافظة على استقرار قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، وذلك من خلال استخدام مزاد العملة اليومي، والذي بموجبه ينزل البنك المركزي مشتريا للدينار مقابل ضخ الدولار إلى السوق، وتحسين الدينار العراقي بتدرج وباستمرار، ضامنا بذلك قوة للدينار العراقي ومبعدا إياه عن شبح التذبذبات التي كانت تواجه الدينار العراقي والتي كانت تنعكس قبل 2003 على تذبذب الاقتصاد برمته، من هنا نجزم إن المركزي قد نجح في سياسة سعر الصرف تلك وطوال الفترة المنصرمة، إلا إن السؤال الذي يواجهنا الآن، هو إلى أي مدى يمكن للبنك المحافظة على رفع ودعم قيمة العملة العراقية أمام الدولار؟ وهنا تقفز إلى الذهن ماهية العلاقة التي تربط بين الأزمة المالية العالمية والبنك المركزي العراقي، فثمة رابط قوي بين البنك المركزي و الأزمة العالمية وما آدت من انخفاض في أسعار النفط، السلعة الرئيسية التي تمول دولارات البنك المركزي، فمن خلال تلك الدولارات استطاع البنك تكوين احتياطاته الأجنبية التي تصل إلى أكثر من 21 مليار دولار، والتي عملت بشكل جلي في تعزيز وتقوية موقف البنك في المحافظة على قيمة العملة العراقية، ومن خلال نفس الدولارات تلك يدير البنك مزاد العملة اليومي، نقول هنا إن البنك المركزي وأمام استمرار حدة الأزمة المالية وما تسببه من بقاء أسعار النفط في مستوياتها المنخفضة فانه سيواجه احتمالين، أحدهما هو المساس والتضحية باحتياطاته التي راكمها من العملات الأجنبية، ننبه من خطورة هذا الآمر الذي نعتبره خطا احمر من غير المقبول عبوره، فالعملة المحلية ستكون مكشوفة وبدون غطاء، الاحتمال الآخر هو التضحية بالمحافظة على استقرار وتحسين الدينار العراقي من خلال التضحية بمزاد العملة، وهذا الآمر هو الآخر مرفوض لما سيسببه من رجوعنا إلى حالة الفوضى التي كانت تشهدها سوق الصرف العراقي قبل 2003 ، وكلا الأمران سيؤثر؛ بالمحصلة، بشكل سلبي على دور البنك المركزي في أداء وضيفته الاستقرارية في الاقتصاد الوطني.
إن مهمة البنك المركزي ليست باليسيرة وذلك في ظل مجموعة من المحددات مثل الأزمة المالية العالمية و إدارة اقتصاد نفطي في ظل دولة متحولة إلى اقتصاد السوق الحر وخارجة من رحم أسوأ الأزمات السياسية والأمنية الداخلية.
من هنا فان على المركزي البحث عن مخرج متأن من تلك الأزمة، واختيار نظام صرف مستقر، أكثر مرونة وأكثر استجابة لمتطلبات المرحلة، نحن هنا إذ لا نذهب بعيدا في شن حملة على سياسة المركزي التي نعتبرها حكيمة طوال السنوات المنصرمة؛ كما تعمد إلى ذلك أطراف متعددة الآن، إلا إننا نشد على يد المركزي في البحث عن وسائل مستحدثة حكيمة وطويلة الأمد تجمع بين هدف الاستقرار الاقتصادي الذي يعد هدفها الأصيل وأهداف الاقتراب من أنظمة أسعار الصرف المرنة والمدارة.
السؤال الآخر الذي يقفز إلى الذهن هو: هل ثمة آثار للازمة العالمية على إعادة النظرِ في مشروع رفع الثلاثة أصفار من الدينار العراقي والذي كانت أطراف عدة قد بدأت بالترويج له، مثل البنك المركزي العراقي ووزارة المالية، يبدو الإجابة عن هذا السؤال لن تكون سهلة، أقول هذا لان انعكاسات الأزمة على الاقتصاد العراقي يصعب رصد آية نتائج نهائية بشأنها، فعدا عن الأثر الذي أحدثته الأزمة على انخفاض أسعار النفط وما أدى إليه من تداعيات خطيرة تمثلت بإعادة النظر في الموازنة العامة من ناحية إعادة هيكلة نفقاتها وتخفيض تلك النفقات لأكثر من مرة في موازنة 2009، فانه من الصعب بمكان التنبؤ بآثار أخرى لتلك الأزمة على الواقع العراقي.
معلوم انه تم تقديم مقترح من وزارة المالية إلى البنك المركزي برفع ثلاثة أصفار من الدينار العراقي، وقد تمت الموافقة عليه من قبل البنك المركزي، حيث تحدث الأخير عن إستراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تحسين وضع العملة العراقية من خلال حذف ثلاثة أصفار منها، وتقوية أنظمة مدفوعاتها انسجاماً مع التطور الاقتصادي الحاصل في البلاد.
نتساءل هنا هل إن مثل هذا المشروع لا يزال قائما ومن الممكن أن يدخل حيز التنفيذ ولو في الأمد المنظور في ظل الظروف الأزمة العالمية؟ أن الأرجح أن يكون الجواب سلبيا، فالأوضاع العالمية هي في حالة من عدم الاستقرار، وان الأزمة المالية أحدثت هزة في جملة مفاصل الحياة الاقتصادية العراقية وذلك من جهة إن النفط هو الممول الرئيس للموازنة العامة ومن ثم هو المحرك الرئيس للاقتصاد العراقي ككل، في حين إن قرار رفع الأصفار لا بد أن يتم في ظل بيئة اقتصادية مستقرة، ومثل هذا القرار لا يأتي أصلا إلا بعد أن تشهد العملة تحسننا واستقرارا في قيمتها، وكلا الأمران غير متاح في ظل استمرار الأزمة، وتداعياتها فالمتغيرات الاقتصادية من المرجح أن تستمر غير مستقرة لفترة ليست بالقصيرة قد تمتد إلى نهاية عام 2010، وما دام رفع الأصفار عن الدينار، كما يزعم مروجو الفكرة أساسا، ليست له علاقة بالتضخم وانه مجرد قضية نفسية فإننا نرى إن أية إجراءات من قبل البنك المركزي في هذا الصدد في ظل الظروف العالمية النفسية المشحونة لن تؤدي حتى إلى تحقيق الهدف النفسي المزعوم.
من هنا فإننا نرى إن المركزي والمالية قد تريثا في الأمر، وقبلا فإننا نتساءل هل كان الاقتصاد العراقي قد وصل أصلا إلى أزمة تضخم جامح أو مفرط بحيث تستدعي حذف الأصفار، نقول إن الجواب عن ذلك من الممكن أن يأتي سلبيا أيضا، و دليلنا على ذلك بسيط جدا ويأتي من طبيعة قرار رفع الثلاثة أصفار ذاته، وأؤكد (الثلاثة) أصفار، معنى هذا إن قيمة الدينار العراقي لم تصل إلى درجة خطيرة من التدهور، ولم يمر الاقتصاد العراقي بدرجات من التضخم الجامح أو المفرط، كما شهدت بعض الدول التي أقدمت على هذه التجربة مثل تركيا التي حذفت (ستة) أصفار من الليرة التركية لتصبح كل مليون ليرة تركية تساوي ليرة واحدة، بل على العكس من ذلك نجد إن التضخم في الاقتصاد العراقي بدأ يأخذ معدلات معتدلة جدا خاصة بعد السنوات 2005 و2006 والتي شهدت اكبر موجات التضخم..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي