Author

الإسلام الاجتماعي والحركة السلفية (2)

|
استكمالا لمقال الأسبوع الماضي نواصل اليوم التعرف على بقية الظواهر الفرعية التي تشكل الظاهرة الإسلامية الحالية في مصر. والظاهرة الفرعية الثالثة هي ظاهرة الإسلام الاجتماعي بمعناه العام، والذي يبدو كجزء من ظاهرة التدين الواسعة التي راحت تجتاح كثيراً من المجتمعات في العالم ومن بينها المجتمع المصري في الربع الأخير من القرن الماضي. وتعني تلك الظاهرة وجود توجه عام في المجتمع المصري، وبصفة خاصة بين الفئات المختلفة للطبقة الوسطى وشرائح من الطبقات الأعلى وأخرى في قمة الطبقات الأدنى، نحو التدين بمعناه التعبدي والسلوكي والمظهري، وهو الأمر الذي تؤكده مؤشرات توسعت في ذكرها مجموعة كبيرة من الدراسات والكتابات خلال السنوات الأخيرة. وقد تكاملت مع ظاهرة التدين الاجتماعي وارتبطت بها ظواهر أخرى فرعية أدت إلى زيادة رقعة هذا التدين في أنحاء المجتمع وامتداده إلى طبقات وفئات اجتماعية جديدة وبخاصة في قمته، في مقدمتها ما بات يطلق عليه ظاهرة "الدعاة الجدد" التي دارت حول مكوناتها وأبعادها وتأثيراتها كتابات ودراسات عديدة. ويمكن هنا ذكر ملاحظتين رئيسيتين على ظاهرة التدين الاجتماعي: الأولى أن تزايد ظاهرة التدين الاجتماعي لم يرتبط بالضرورة بصورة كبيرة بالتوجه نحو التأييد السياسي للحركات الإسلامية العاملة في المجال السياسي وهو لا يعكس بالضرورة شعبيتها في المجتمع. فالواضح هو أن ممارسي الطقوس والمظاهر الاجتماعية للتدين – مثل ارتداء الحجاب أو أداء الصلوات في المساجد أو اقتناء وشراء الكتب والشرائط والأسطوانات الدينية – ليسوا بالضرورة من المهتمين أصلاً بالعملية السياسية ولا من المؤيدين بالضرورة لأبرز الجماعات الإسلامية السياسية المصرية، أي الإخوان المسلمون، فعلاقة معظمهم بالسياسة هي نفسها علاقة غالبية المصريين بها، أي اعتزالها ممارسة وعملاً والامتناع عن جميع الممارسات المرتبطة بها سواء كانت انضماماً للأحزاب السياسية أو الترشيح في الانتخابات العامة والتصويت فيها أو الاحتجاج المنظم والفردي بجميع صوره المعروفة. ومع ذلك فإن نسبة لا يمكن إهمالها ولا يمكن في الوقت نفسه تحديدها بدقة، وإن كانت لا تبدو كبيرة، من المتدينين اجتماعياً تتجه للتصويت في الانتخابات العامة والنقابية والطلابية لصالح جماعة الإخوان المسلمين وتهتم أكثر بالعمل السياسي مقارنة بنظرائهم من غير المتدينين اجتماعياً في فئاتهم وطبقاتهم الاجتماعية نفسها. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالسلوك الاجتماعي والقيم التي تسود بين هؤلاء المتدنين اجتماعياً، حيث يبدو من كثير من المشاهدات والملاحظات أنه بالرغم من تمتع نسبة عالية منهم بمزاج اجتماعي وديني محافظ، إلا أن نسبة أخرى غير قليلة يبدو واضحاً أن تمسكها بالمظاهر الدينية، وبخاصة في الملبس، لا يعني على الإطلاق اتسامها بهذه المحافظة الدينية والاجتماعية. وهنا يبدو التفسير الأكثر ترجيحاً لانضمام هؤلاء إلى ظاهرة التدين الاجتماعي يكمن في عملية اجتماعية – نفسية مركبة تتضمن في جانب منها النزوع نحو تقليد ما هو سائد في المجتمع من أنماط قيم وسلوك دينية وتتضمن في جانب ثان ردعاً اجتماعياً لغير الملتزمين بها ولو شكلياً، وهو ما ينتج في النهاية تلك المشاهد والمؤشرات القيمية والسلوكية المتناقضة بين مظاهر التدين الاجتماعي والانفتاح السلوكي غير المحافظ لفئة من الملتزمين بها. وتفتح هذه الملاحظة الثانية الباب للحديث عن الظاهرة الرابعة والأخيرة من الظواهر الفرعية للظاهرة الإسلامية التي تختلف جميعها عن "الحركات الإسلامية" في علاقة كل منها بالسياسة، وهي الظاهرة السلفية، وهي ظاهرة قديمة في مصر لها منذ بدايات القرن الـ 20 مؤسساتها الضخمة المستقرة في المجتمع مثل الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة المحمدية التي أسست عام 1912 أو جمعية أنصار السنة المحمدية التي أسست عام 1926، ولهما اليوم مئات الفروع وآلاف المساجد وعشرات المشاريع الدينية والاجتماعية في شتى أنحاء مصر. وإضافة إلى مبادئها السلفية المعروفة، فإن مختلف الجمعيات والجماعات السلفية في مصر سواء في الماضي أو الحاضر ظلت تبتعد دوماً عن أي ممارسة سياسية أو تنظيم يقوم على معايير سياسية أو يدفع بها إلى ساحة السياسة، كما ظل الالتزام الشكلي الصارم للمنتمين للحركة السلفية رجالا ونساء بما يرون أنه سنة مؤكدة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمراً لا تنازل عنه لديهم. ولا شك أن مصر قد عرفت خلال السنوات الأخيرة مزيدا من الاتساع للحالة السلفية تدل عليه مؤشرات عديدة سواء كانت انتشار النقاب للنساء والجلباب واللحى للرجال أو تزايد عدد المساجد والزوايا المحسوبة على هذه الحالة وعدد المترددين عليها أو ظهور وتنامي عدد كبير من الدعاة السلفيين سواء في المساجد أو في الفضائيات التابعة للجماعات السلفية والتي زاد عددها بدورها. ومع كل ذلك، تظل الظاهرة السلفية المصرية على اتساعها في المرحلة الأخيرة، على نفس مسافة ابتعادها التقليدية عن النشاط السياسي بالرغم من اعتقادها النظري أن "الإسلام دين ودولة" وأن كل النظم التي لا تحكم بالإسلام هي "نظم كافرة". ولا يخل بهذه الحالة السلفية العامة سوى ظهور بعض الأفراد والمجموعات الصغيرة غير المؤثرة خلال الأعوام الخمسة الماضية من الشباب السلفي الاتجاه الذين اقتربوا كثيراً من أفكار السلفية – الجهادية التي شاعت على يد تنظيم القاعدة ونظرائه في هذه الفترة في كثير من المجتمعات المسلمة والجاليات المسلمة في البلدان الغربية. واتسمت تلك المجموعات الصغيرة بسمتين رئيسيتين: الأولى، أن المصادر الرئيسية لأفكارهم الجديدة أتت إليهم عبر شبكة الإنترنت التي باتت تضم ترسانة هائلة من الكتابات والمؤلفات السلفية – الجهادية، والثانية، أن أي منها لم ينتقل من حالة الاقتناع الفكري إلى النشاط الحركي السلفي – الجهادي سواء بسبب افتقاد الخبرة والإمكانيات أو بسبب السياسات الأمنية الصارمة والمبادرة.
إنشرها