في جنوب مدينة جدة السعودية، المطلة على ساحل البحر الأحمر، تمتد محطة الشعيبة للطاقة الشمسية على مساحة 50 كيلومترا مربعا من الصحراء، لتنتج في مرحلتها الأولى 600 ميجاواط من الكهرباء بتكلفة 3.9 هللة فقط لكل كيلوواط/ساعة، وهي تكلفة تقارب عُشر نظيرتها في محطة هينكلي بوينت سي النووية البريطانية لتوليد الطاقة المُخطط لها.
السعودية تعتزم استخدام هذه الكهرباء المنخفضة التكلفة لتشغيل مراكز بيانات ضخمة مخصصة للذكاء الاصطناعي.
فتكلفة "عمليات الاستدلال" في أنظمة الذكاء الاصطناعي، أي الاستعلام والحصول على إجابات، تتكون من عنصرين: التكلفة الثابتة لأجهزة الحوسبة، والتكلفة المستمرة للكهرباء اللازمة لتشغيلها، وفقا لمجلة "ذا إيكونمست".
ولأن خفض الإنفاق على الأجهزة يُعد اقتصادا زائفا، لأن أحدث وأغلى الرقائق الإلكترونية عادةً ما تكون أكثر كفاءة في تشغيل أفضل الخوارزميات، فإن توفير أنظمة ذكاء اصطناعي أقل تكُلفة يعتمد على استخدام كهرباء أرخص، وهو المجال الذي ترى السعودية أنها تمتلك فيه أفضلية واضحة.
أصبحت هذه الاستراتيجية أولوية وطنية للسعودية في مايو الماضي بدعم مباشر من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حين أُطلقت شركة "هيوماين" ليقودها الرئيس التنفيذي طارق أمين، الذي قال آنذاك: "لقد انطلقنا بقوة، لا ببطء".
كُلّ الظروف مواتية للسعودية
تبدو الظروف مواتية للسعودية: فمراكز البيانات تحتاج إلى طاقة لتشغيلها، وأراضٍ لإقامتها، ورقائق إلكترونية لتشغيلها، وكل هذا متوافر لدى المملكة.
فبينما تُعدّ الطاقة نقطة قوة للسعودية، تظل الأراضي فيها وفرة وسهلة المنال على رحابة أرض المملكة المترامية الأطراف والكثاقة السكانية المنخفضة. وبدعم حكومي، يسهل الحصول على تراخيص البناء.
أمين، الذي عمل في مشاريع بنية تحتية مع شركة الاتصالات الهندية "ريلاينس جيو" والتكتل الياباني "راكوتين"، قال إن "هيوماين" حددت خلال أول أسبوعين أكثر من 200 موقع محتمل، مع إمكانية الوصول إلى إمدادات طاقة إجمالية تبلغ 15.6 جيجاواط، من بينها 4 مواقع كبيرة تقع بمحاذاة مصادر كافية من الطاقة الشمسية.
أما فيما يخص الرقائق الإلكترونية الأكثر تعقيداً، فقد بدأت رحلة المملكة في مجال مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي باتفاقية بين أرامكو ديجيتال وشركة "جروك" المتخصصة في هذه الرقائق تم بموجبها الحصول على أشباه موصلات بقيمة 1.5 مليار دولار في فبراير.
هيوميان تقدم منتجا بنصف سعر السوق
صُممت هذه الشرائح خصيصاً لأعمال الاستدلال، ما جعلها أقل جاذبية لعديد من مختبرات الذكاء الاصطناعي الكبرى التي تفضّل المرونة بين تدريب النماذج وتشغيلها. لكنها في المقابل مناسبة تماماً لخفض تكلفة استخدام النماذج، من خلال تقليص تكلفة تصدير الرموز، وهي الوحدة الأساسية لاستخدام الذكاء الاصطناعي.
تفرض معظم منتجات الذكاء الاصطناعي التجارية رسوما على كل رمز يُستخدم في الاستعلام (على سبيل المثال 1.25 دولار لكل مليون رمز في نموذج جي بي تي 5 من أوبن إيه آي) ورسومًا منفصلة على كل رمز يُنتج في المخرجات (10 دولارات لكل مليون رمز).
ويقوم عرض "هيوماين" المقدم لشركات الذكاء الاصطناعي على فكرة بسيطة: تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي باستخدام الكهرباء السعودية، وإنتاج رموز المخرجات بتكلفة أقل بكثير مما يُفرض على العملاء.
بفضل الطاقة الرخيصة والشرائح عالية الكفاءة، تمكنت "هيوماين" من بيع رموز المخرجات بنحو نصف سعر السوق، بحسب أمين.
في نوفمبر، حصلت هيوماين على أحدث الرقائق، حين أسفرت زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة عن حصول الشركة على ترخيص لاستيراد 35 ألف شريحة متطورة من "إنفيديا"، بتكلفة تقارب مليار دولار، وفقا لـ "ذا إيكونيمست".
وعلى الرغم من أن هذا العدد قد لا يكفي لتجهيز أكثر من مركز بيانات واحد لخدمة شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى التي تستهدفها "هيوماين"، فإنه يمثل تحولا جذريا عن المحاولات الأمريكية السابقة التي كانت تهدف إلى حصر أجهزة الحوسبة المتطورة للذكاء الاصطناعي على أقرب حلفاء المملكة.
قبل ذلك بوقت قصير، وقّعت شركة "إير ترانك"، المتخصصة في بناء مراكز البيانات، صفقة بقيمة 3 مليارات دولار مع "هيوماين" لإنشاء مجمع لمراكز البيانات في السعودية.
سقف طموحات السعودية يرتفع
لا تقتصر طموحات السعودية على بناء مراكز البيانات فحسب، بل استخدامها أيضا. فقد تم توفير نموذج "عَلّام"، وهو نموذج ذكاء اصطناعي باللغة العربية طُوّر بالتعاون مع الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا).
وقّعت هيوماين كذلك اتفاقيات مع شركات مثل "أدوبي" لدمج هذا النموذج ضمن تطبيقاتها.
درار سيفان، شريك في شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" للاستشارات، يؤكد أن هذه الشراكات تدل على أن السعودية تسير في الاتجاه الصحيح نحو تأسيس قطاع ذكاء اصطناعي مزدهر، ويتوقع أن تدخل المملكة ضمن أفضل خمسة مراكز عالمية للذكاء الاصطناعي خلال 5-7 سنوات من الآن.
لقد رفعت النجاحات المبكرة من طموح أمين، فهو لا يتحدث الآن عن تصدير الرموز أو تدريب النماذج فحسب، بل عن بناء "نظام تشغيل ذكاء اصطناعي هو الأول من نوعه في العالم للمؤسسات، منافس مباشر لنظام مايكروسوفت ويندوز، حيث تُستبدل أقسام الموارد البشرية والمالية والقانونية بوكلاء ذكاء اصطناعي، وتُبنى واجهة المستخدم على أساس توجيه روبوتات الدردشة بدلاً من النقر على الأيقونات.
إنها رؤية جريئة، وربما تبدو ضربا من الخيال. ويقول أمين: "لا يمكنني التخلف عن المواعيد النهائية، وهذا ما يُبقيني متيقظاً. أنا لا أستهين بالمهمة".

