الساعة اليدوية.. هدف اقتصادي

[email protected]

"كونستانتين فاشيرون"، "باتيك فيلب"، "رولكس"، و"أوميقا". جميعها علامات تجارية مسجلة لساعات يدوية سويسرية. تتميز الساعات السويسرية بفخامتها المتناهية، وجودتها العالية، وسعرها المرتفع، واستهدافها للشريحة العليا من الطبقة المتوسطة فما فوق من مستهلكي سوق الساعات العالمي.
"سيكو"، "سيتيزن"، "كاسيو"، و"بولسار". جميعها علامات تجارية مسجلة لساعات يدوية يابانية. تتميز الساعات اليابانية بكمالياتها المتواضعة، وجودتها المعتدلة، وسعرها المتوسط، واستهدافها للشريحة المتوسطة من الطبقة المتوسطة فما دون من مستهلكي سوق الساعات العالمي.
تشكل جميع هذه العلامات التجارية المسجلة للساعات اليدوية قطبي منافسة على مستوى العالم منذ عقود طويلة بين قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري ومثيله الياباني. يحاول كل قطاع تحقيق الاستدامة من خلال تطوير أساليب وآليات تصنيع فريدة.
الدافع خلف هذا التطوير الدروس التي تعلماها من تراجع قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطاني منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عن الريادة العالمية في صناعة الساعات اليدوية.
تشير أدبيات التاريخ الاقتصادي إلى أن بريطانيا كانت رائدة في صناعة الساعات اليدوية خلال القرن الثامن عشر الميلادي من خلال إنتاجها لقرابة نصف إنتاج العالم من الساعات اليدوية. عزيت أسباب هذه الريادة العالمية إلى أربعة عوامل رئيسة.
العامل الأول، انخفاض تكلفة العمالة المستخدمة في إنتاج الساعات اليدوية. عزي السبب في ذلك إلى انتقال ورش تصنيع الساعات من منطقة العاصمة البريطانية، لندن، ذات التكلفة العمالية المرتفعة إلى منطقة الوسط البريطاني، بريسكوت، ذات التكلفة العمالية المنخفضة. أسهم هذا العامل في انخفاض التكلفة الكلية لإنتاج الساعات اليدوية، وبالتالي زيادة هامش الربح من مبيعاتها.
العامل الثاني، ظهور تجمع صناعي لصناعة الساعات اليدوية. عزي السبب في ذلك إلى ظهور ورش تصنيع للمواد الأولية المستخدمة في إنتاج الساعات اليدوية، كالقطع النحاسية والحلزونية الصغيرة، بقرب ورش تصنيع الساعات اليدوية في منطقة الوسط البريطاني، بريسكوت. شكلت جميع هذه الورش تجمعاَ صناعياَ أسهم في انخفاض تكلفة استيراد وتصدير الساعات اليدوية، من جهة، وزيادة هامش أرباح مبيعاتها، من جهة أخرى.
العامل الثالث، زيادة الطلب الداخلي على الساعات اليدوية البريطانية. عزي السبب في ذلك إلى ثقافة الشعب البريطاني إبان تلك الحقبة الزمنية، وما نتج عنه من أن تصبح الساعة اليدوية من الضروريات لأناقة الرجل البريطاني والمرأة البريطانية.
العامل الرابع، وهو الأهم، اقتناء ورش الساعات البريطانية لمواد أولية غير معروفة في باقي أنحاء العالم. عزي السبب في ذلك إلى قدرة ورش تصنيع الساعات اليدوية البريطانية على اكتشاف طريقة جديدة لصهر الحديد. مكنت هذه الطريقة من إنتاج مواد حديدية مرنة استخدمت في صناعة الساعات اليدوية. أسهمت هذه المواد الحديدة المرنة في تطوير جودة الساعات البريطانية اليدوية.
شكلت هذه العوامل الرئيسة الأربعة في مجملها ميزة تنافسية ميزت صناعة الساعات اليدوية البريطانية عن مثيلاتها في اقتصاديات الدول الأخرى إبان تلك الحقبة الزمنية. أسهمت هذه الميزة التنافسية في استدامة صناعة الساعات اليدوية البريطانية حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما بدأت هذه الميزة التنافسية بالتلاشي لسببين مترابطين.
السبب الأول، تقاعس ورش تصنيع الساعات اليدوية البريطانية عن الاستمرار في إجراء الأبحاث والتطوير ذات العلاقة بتطوير أساليب وآليات تصنيع الساعات اليدوية. وهذا سبب اختياري كون القرار في الاستمرار في إجراء الأبحاث والتطوير هذه من عدمه متوقف على حوكمة قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطاني.
والسبب الثاني، الحروب البريطانية المتعاقبة في تلك الفترة وانعكاساتها السلبية على الاقتصاد البريطاني. وهذا سبب إجباري كون الحروب في طبيعتها تستنفر طاقات الدولة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، مخلفةَ الدمار الشامل على المدى البعيد.
شكل هذان السببان فرصة ذهبية لقطاعات صناعة الساعات اليدوية في الاقتصادات الأخرى للتقدم على قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطانية في الريادة العالمية. من هذه القطاعات، قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري، ومثيله الياباني.
تسابقا كلا هذين القطاعين على التقدم على قطاع صناعة الساعات اليدوية البريطانية من خلال دراسة عوامل نجاح قطاع صناعة الساعات اليدوية الأربعة التكلفة، التجمع الصناعي، الطلب، والأبحاث والتطوير، ومحاولة محاكاتها بما يتناسب والاقتصاد السويسري والياباني، على التوالي.
نجح قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري في محاكاة هذه العوامل الأربعة بشكل أفضل من قطاع صناعة الساعات اليدوية الياباني إبان تلك الحقبة الزمنية. أسهم هذا النجاح في تبوء العلامات التجارية المسجلة للساعات اليدوية السويسرية، كـ "كونستانتين فاشيرون" و"باتيك فيلب"، مكانة مرموقة في الفخامة، والجودة، والسعر، عن مثيلاتها اليابانية، كـ "سيكو" و"سيتيزن".
كيف تقدم قطاع صناعة الساعات اليدوية السويسري على مثيليه البريطاني والياباني، إبان تلك الحقبة الزمنية، هو موضوع مقال مقبل، بعون الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي