الذهب والنفط .. علاقة سعرية متشابكة في الارتفاع والهبوط
تساؤلات عدة يطرحها المراقبون عن العلاقة القائمة بين أسعار النفط والذهب أبرزها هل هي علاقة عكسية بمعنى أن زيادة أحدهم تعني انخفاض الآخر؟ أم أنها علاقة طردية وأن ما يحدث في الأسواق الآن حالة استثنائية، تعود إلى الوضع القوي للعملة الأمريكية حاليا؟ وإلى أي مدى يمكن للمختصين استشراف المسارات السعرية لإحدى السلعتين من السلعة الأخرى؟ وهل يمكن أن تؤثر أسعار النفط في أسعار الذهب خلال النصف الثاني من العام الراهن، وفي أي اتجاه إن حدث هذا؟
"الاقتصادية" استطلعت آراء عدد من المختصين والمحللين والخبراء لمعرفة العلاقة السعرية بين السلعتين والآفاق المستقبلية لهما، الذين تباينت آراؤهم حول هذا الموضوع، لكن الإجماع كان على أن السلعتين تحكمهما عوامل مشتركة تسهم في ارتفاع واحدة وانخفاض أخرى.
ففي الوقت الذي أوردت فيه وكالات الأنباء أن أسعار الذهب حققت أعلى ارتفاعا لها خلال ثلاثة أشهر، بزيادة أسبوعية تقدر بـ 3 في المائة، سجل المعدن الأصفر بذلك أكبر زيادة أسبوعية له خلال أربعة أشهر، فإن الأنباء أشارت أيضا إلى أن أسعار النفط استقرت دون تغيير يذكر. الدكتورة جنا سيماكوفا الخبيرة في اقتصادات المواد الأولية والمحاضرة في مدرسة لندن للاقتصاد، سبق لها أن نشرت بحثا تحليلياً حول العلاقة بين النفط والذهب توصلت فيه إلى أن العلاقة بينهما علاقة طردية، وأن ارتفاع أحدهما يعني ارتفاعا أيضا في سعر الآخر، وإن لم يكن بالضرورة بالنسبة ذاتها.
وأوضحت سيماكوفا لـ "الاقتصادية"، أن الذهب والنفط تتأثر أسعارهما بمجموعة من العوامل المتباينة لكنها ذات التأثير المتشابه، وعلى المدى الطويل العلاقة بينهما طردية، فأسعار الطاقة عامل رئيس في تحديد تكلفة الإنتاج في مناجم الذهب، لكن هذا لا ينفي وجود حالات استثنائية في الأسواق لدخول عوامل خارجية تؤدي إلى تغيير النمط التقليدي للعلاقة.
وحول تفسيرها لأسباب الوضع الراهن من ارتفاع أسعار المعدن الأصفر وتراجع النفط، تؤكد سيماكوفا أن هذا وضع مختل ومؤقت، وبصفة عامة سنجد اتجاه الأسواق يميل للتراجع في قيمة الذهب منذ بداية العام الماضي تقريبا، والانخفاض في قيمة النفط منذ منتصف العام الماضي أيضا، وهذا يؤكد على ارتباط السلعتين سعريا. الدكتور روبرت نيل الاستشاري في مجلس الذهب العالمي يختلف نسبيا مع وجهة النظر السابقة، ويعتبر أن التغيرات الاقتصادية الدولية منذ عام 2008 تجعل من الصعب الوصول لنتيجة حاسمة ومحددة بشأن العلاقة بين الذهب والنفط. وأضاف نيل أن علينا أن نتذكر أن الأزمة الاقتصادية التي لم يخرج منها النظام الرأسمالي العالمي بعد بدأت عام 2008 كأزمة مالية، ولهذا السبب ارتفعت أسعار الذهب مع بداية الأزمة باعتباره مخزنا للقيمة ووسيلة ادخارية خاصة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقد ظلت العلاقة بين الذهب والنفط طردية حتى عام 2010، إذ إن تحليل البيانات السعرية للمعدن النفيس والذهب الأسود تكشف أن العلاقة تراجعت منذ ذلك العام.
وحول أسباب هذا التراجع، يشير الدكتور نيل إلى أن السياسات المصرفية ومحاولة البلدان الرأسمالية عالية التطور أن تتصدى للأزمة عبر خفض أسعار الفائدة، لتشجيع الإقراض لزيادة الطلب، وتصاعد قوة الدولار أدى إلى تغير ملحوظ في العلاقة بين الذهب والنفط، وأصبح سعر الذهب أكثر ارتباطا بقيمة الدولار، وإذا كانت هناك علاقة بين السلعتين فإنها لم تعد علاقة مباشرة، وانما مستمدة من تأثير أسعار الفائدة وقيمة الدولار الأمريكي فيهما.
وقد أدى فك الارتباط نسبيا بين التوجهات السعرية للنفط والذهب، إلى تباين في وجهات نظر المحللين حول التوقعات المستقبلية بالنسبة للأسعار خاصة أسعار المعدن الأصفر. روبرت ستيف المختص في اتحاد السبائك البريطانية يبدو متشائما بشأن أسعار الذهب خلال الأشهر المتبقية من هذا العام وحتى نهاية النصف الأول من العام المقبل.
وأوضح ستيف أن الزيادة الراهنة في أسعار المعدن الأصفر، لا يمكن اعتبارها دليلا على تحسن الأسواق، فهي تعكس الصعود والهبوط المؤقت للأسواق، ولا تعكس اتجاها دائما في الوقت الحالي، فالعوامل الرئيسة المحددة لأسعار الذهب تتمثل في تنامي عدد سكان العالم، ومعدل الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي عالميا، ومعدل التحسن المطرد في مستويات المعيشة، وسياسات البنوك المركزية، وسعر الدولار، والتطور التكنولوجي، والتكهنات المستقبلية حول السعر والطلب.
وأشار ستيف إلى أن هذه العوامل لا يتوقع لها أن تتغير في المستقبل القريب، بل على العكس فإن بعضها سيلقي بظلال سيئة على الذهب وأسعاره، مثل الدولار الأمريكي وتواصل الصعود في قيمته في مواجهة العملات الدولية الأخرى، وإضافة لذلك التوقعات الخاصة برفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة ستؤثر سلبا في أسعار المعدن النفيس، وأعتقد أن الذهب سيفقد بريقه لبعض الوقت وستتراجع أسعاره في المدى القصير والمتوسط.
الدكتور سيمون كوبر خبير اقتصادي ومحلل مالي في بورصة لندن يطرح وجهة نظر مختلفة بعض الشيء حول تأثير أسعار النفط في أسعار الذهب خلال هذا العام، ويوضح أن النفط والذهب يختلفان عن الأسهم أو السندات، فالأول هو العنصر الأساس المحرك للقطاع الصناعي عالميا، والثاني يعد المخزون الرئيس للادخارات سواء بالنسبة للأفراد أو حتى البنوك المركزية.
وأضاف كوبر أن هناك فرقا مهما من الناحية المالية بين النفط والذهب من جانب والأسهم والسندات من جانب آخر، فالذهب أو النفط لا يمنحان تدفقات مالية كالأرباح التي تنجم عن الأسهم مثلا، وعليك بيع الذهب أو النفط للحصول على ربح.
وأشار كوبر إلى أن النفط يرتبط في استهلاكه بعوامل مؤسسية تحددها أساسا الدول والمؤسسات الصناعية العملاقة والأفراد يلعبون دوراً محدوداً في التوجهات السعرية، والذهب على النقيض من ذلك لأن سعره يتحدد بناء على استهلاك الأفراد بالأساس وتحديدا في دولتين رئيستين وهما الصين والهند، ومن ثم فإن تراجع سعر النفط لا يعني بالضرورة تراجعا سريعا في سعر الذهب ولكنه حتما سيؤدي لتراجعه، وارتفاع سعر النفط لا يعني ارتفاعا سريعا في سعر الذهب ولكن مع مرور الوقت سترتفع أسعار المعدن النفيس.
أما لوسان فيسك الباحث في بنك "نت واست" البريطاني فيعتقد أن العلاقة بين النفط والذهب مرتبطة، ولكن في اتجاه أحادي، ويضيف أن انخفاض أو ارتفاع أسعار النفط يؤدي إلى انخفاض أو ارتفاع أسعار الذهب، فالبترول جزء رئيس من تكلفة إنتاج الذهب وصناعته، لكن العكس ليس صحيحاً، فارتفاع أسعار الذهب أو انخفاضها لا يؤثر في أسعار النفط ارتفاعا أو انخفاضا.
وحول توقعاته بشأن أسعار الذهب خلال الأشهر المقبلة، يشير فيسك إلى أن التراجع في الأسعار هو جراء ثبات الطلب في الهند والصين، مع انخفاض أسعار النفط ما أدى إلى تراجع تكلفة الإنتاج في مناجم الذهب.
لكنه يعتقد أن المسار السعري المستقبلي للذهب جيد ويقول إنه إذا كان المقصود تحديد السعر في الأجل الطويل فمن المنطقي أن يرتفع سعر الذهب بمجرد ارتفاع أسعار النفط التي يتوقع لها أن تتحسن خلال النصف الثاني من العام المقبل، خاصة مع تراجع الإنتاج الأمريكي من النفط الصخري، وبالتالي سترفع تكلفة إنتاج الذهب وسعر البيع.
وقد أصدرت مؤسسة ميتسوبيشي للمعادن التي تعد واحدة من أكبر شركات المعادن في العالم تقريرا بشأن الأسعار المتوقعة للذهب والفضة، أشارت فيه إلى أن أسعار المعدن الأصفر ستأخذ في التراجع خلال الأشهر القليلة المقبلة جراء مساعي صناديق التحوط وبعض البنوك المركزية من التخلص مما لديها من احتياطات من المعدن النفيس جراء تراجع أسعاره في الوقت الراهن، إضافة إلى عدم وضوح الرؤية حول توقيت رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة ونسبة الزيادة.
وأكد التقرير على ضرورة أن يستعد المستثمرون في مجال الذهب إلى دورة جديدة من انخفاض الأسعار قبل أن تستعيد السوق توازنها ويستعيد المعدن الأصفر بريقه، إلا أن المختلف في التقرير عن التكهنات المشار إليها أن مؤسسة ميتسوبيشي توقعت أن يتحسن سعر الذهب في الربع الأخير من العام الجاري وأن يبلغ 1360 دولارا للأونصة. ويرجع التقرير هذا التحسن إلى أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيتخذ قراره برفع أسعار الفائدة في الفترة من أيلول (سبتمبر) إلى تشرين الأول (أكتوبر)، وهي الفترة التي ستشهد تراجعا في أسعار الذهب جراء الإقبال على الدولار، على أن تستقر الأسواق لاحقا لإدراك المستثمرين أن الفيدرالي الأمريكي لن يقدم على رفع أسعار الفائدة مرة أخرى في القريب العاجل، مما يعيد للذهب دوره الرئيس المتراجع كمخزن للقيمة.