قصة معوق أمريكا ( 1-2)

[email protected]

(يصفني بالغباء بعد أن أكرمته)

ذات يوم - قبل أكثر من 15 سنة, عندما حضرت أحد المؤتمرات العلمية في أمريكا - قررت الذهاب إلى المحال التجارية لشراء بعض الهدايا للأهل والأقارب في السعودية. ذهبت إلى محل تجاري مشهور يملك سلعا جيدة الصنع وبأسعار معقولة, إضافة إلى معرفتي بمدير مبيعات هذا المحل, وهذه المعرفة تعطيني حسماً يصل إلى 15 في المائة. بدأت أتجول بداخله، لفت نظري منظر مدهش, اهتزت له عواطفي ومشاعري, وحمدت الله على ما أعطاني من صحة, وتذكرت أنعم الله على كثير من الناس, وأنا منهم. كان هناك شاب عمره فوق العشرين بقليل, ولكنه لا يحرك ساكناً، فهو كما يبدو معوق جسدياً إعاقة تامةً، فهو لا يستطيع أن يحرك يديه؛ لأنه لا يوجد له يدان، ورجلاه نحيلتان وصغيرتان, ويحرك رأسه يمنة ويسرة ببطء شديد. ولكنه مركز نظره فيّ, أو قد يخيل إليّ ذلك, بسبب تعاطفي الشديد معه. ذهبت بعيداً عنه مدة بسيطة, ولكن ما لبثت أن عدت إليه بسرعة أتفحصه, ولعلي أقدم له شيئاً, فأنا مسافر, والصدقة في مثل هذه الظروف لها أجر كبير, فقد تدفع عني كثيرا من البلاء والأشرار. انتظرت قريباً منه لعليّ أرى أحد أقاربه, ولكن, وللأسف, طال بي الانتظار. رأيت في أعينه شيئاً غريباً كأنه يريد أن يخاطبني، وفي هذه الأثناء, وبينما أنا متردد فيما أزمع عمله إذا بي أكلمه قائلاً له: كيف حالك؟ .. والجواب طبعاً واضح، فلم يرد عليّ, بل زاد من تركيز نظراته, وتفحصه ليّ, فقلت له: أريد مساعدتك, هل تقبل ذلك مني؟ فلم يرد عليّ, بل خيل ليّ أنه سوف يكون سعيداً بهذه المساعدة, فأنا أعرف الشعب الأمريكي, فهم يقدسون الكلمة الساحرة مجاناً (free) ويثمنون المال حتى لو كان بضعة فلسات. اقتربت من الشاب, وابتسمت له, ثم وضعت أمامه قليلاً من المال. وقبل أن أرفع يدي, أخذ يصرخ, ويصيح, ويتمتم, ثم بدأ باستخدام ذقنه في تحريك عربته, وصارت هذه العربة نفسها تنادي وتقول مام .. مام .. داد .. داد ،أماه .. أبتاه ساعدوني. فنظرت يمنة ويسرة, فإذا رجل وامرأة قريبان مني, سبق أن رأيا ما فعلت. فقالا لي: خذ مالك بسرعة, فعدت إلى هذا الشاب المعوق, وأخذت من أمامه ما وضعت له من مال, وعندما نظرت إلى عينيه وجدت حقد العالم كله فيها. عدت عدة خطوات إلى الخلف, وحمدت الله بأن هذا الشاب لا يستطيع أن يتحرك, فقد يقتلني لما وصل إليه من غضب. ولكن حبّ الاستطلاع جعلني أقف في مكاني, ومع ذلك الرجل وزوجته, لأنهما سوف يساعداني في مثل هذا الموقف المحرج. زاد الشاب من استخدام ذقنه لضغط أزرار اللوحة الإلكترونية التي أمامه, وبدأ يخاطبني بلغة الآلة, وليس بلغته. في ما يبدو أن هذه العربة مصممة على شكل رجل آلي يحمل ذاكرة خزن فيها الكلام والحركة. وبعد أن اقترب مني قال لي: اخرج من هنا يا غبيّ, لا تدعني أرى وجهك. وفي هذه الأثناء جاءت أمه تركض, وخلفها زوجها وكانا عملاقين, فشعرت بالخوف الشديد, وتخيلت نفسي بين يديهما معصوراً. فتحركت من مكاني, وجئت خلف الأسرة الأمريكية السابقة, وجعلتهم حاجزاً فيما بيني وبين أهل هذا المعوق. فقالت لنا أمه: ماذا فعلتم بابني؟ فنظر إليه الرجل وزوجته اللذان وضعتهم (وجاء) في المقدمة مبتسمين, ثم تكلما مع أسرة المعوق, وقصا لهما القصة. فاقترب مني والد المعوق, ووضع يده على كتفي, فكاد يكسره, وهو لا يقصد, ولكنه رجل عملاق, ويريد أن يشرح ليّ سبب غضب ابنه. فقال لي: لقد أهنت ولدنا بتصرفك هذا, فمثل هذا العمل يعدّ عندنا عيباً, فقلت له: كيف هذا؟ فنحن في بلادنا نجد ناساً أصح من ابنك بل صحتهم أحسن مني ومنك, وهم "يشحذون", وبكل إصرار، بل بلغ بهم الأمر إلى أن ذهبوا إلى إشارات التقاطع في الشوارع العامة "يشحذون", وأصبحت مهنتهم في الحياة. سوف أكمل هذه القصة في المقال القادم إن شاء الله, ومن ثم نتطرق إلى بعض الفوائد والتعليقات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي