قراءة لنظرية في تفسير الإرهاب (2 من 2)

[email protected]

هل غياب الديمقراطية هو الدافع الحقيقي؟

ناقشنا في المقال السابق الركن الأول في تلك النظرية التي يرددها كثير من الكتاب والمحللين الغربيين وبعض من العرب والمسلمين القريبين من طريقة تفكيرهم، حول تفسير نشأة الموجة الحالية من الإرهاب الدولي المرتبط بالإسلام واتساعها في السنوات الست الأخيرة. وهذا الركن الأول هو الادعاء بأن أصل الإرهاب الحالي فكراً وممارسة إنما هو طبيعة الدين الإسلامي نفسه، حيث يزعمون أن فيه خصائص هيكلية تفتح الباب للرؤى والتفسيرات المتطرفة والمغالية التي يتبناها المتطرفون والإرهابيون. وكما ذكرنا في بداية المقال نفسه، فإن هؤلاء يرون أيضاً أنه إذا كان أصل الإرهاب فكراً وممارسة هو تلك الطبيعة المزعومة للدين الإسلامي، فإن غياب الديمقراطية وهيمنة نظم وقيم الاستبداد على الدول والمجتمعات المسلمة يمثل دافعاً مهماً للجوء عديد من أبنائها إلى الإرهاب كفكر وممارسة للتمرد على ذلك الوضع.
والحقيقة أن هذا القول إن غياب الديمقراطية وهيمنة الاستبداد قيماً ونظماً وممارسات على دول ومجتمعات العالم الإسلامي يأتي ضمن نفس المنطق السابق الإشارة إليه في المقال السابق، وهو إحالة جذور ودوافع ظاهرة الإرهاب الدولي الحالية إلى الساحة الداخلية للمسلمين سواء كانت دينهم نفسه أو أوضاعهم السياسية غير الديمقراطية، التي تبدو كعوامل ودوافع هيكلية دائمة ومستمرة منذ زمن طويل، مع الاستبعاد التام لوجود أي عوامل أو دوافع خارجية، سواء تعلقت بسياسات راهنة لدول غير مسلمة أو بتفاعلات تاريخية كانت بعض تلك الدول طرفاً مباشراً فيها مع دول ومجتمعات إٍسلامية. ويبدو هذا المنطق متهافتاً مع التطور الواقعي المعروف للظاهرة الإرهابية الحالية المرتبطة بالإسلام، حيث يبدو واضحاً أن تزايد معدلاتها واتساع مساحتها ارتبطا بصورة مباشرة بالسياسات الأمريكية التي تلت هجمات أيلول (سبتمبر) 2001، وخصوصاً احتلال العراق ومن قبله أفغانستان. فقبل هذا الوقت لم تعرف بلدان مثل المغرب، الأردن، قطر، وتونس، أي أعمال إرهابية تقريباً، بينما لم تعرفها بلدان أخرى منذ سنوات طويلة مثل السعودية التي توقفت فيها عام 1996 وبريطانيا منذ توقف الجيش الجمهوري الأيرلندي عن العنف عام 1997 والجزائر منذ العام نفسه. ولا تظهر تلك الصلة بين الأمرين فقط من ترافقهما من الناحية الزمنية، ولكن أيضاً من ملاحظة مدى أهمية تلك السياسات الأمريكية في حشد الأنصار والأعضاء للجماعات الإسلامية المتشددة ذات الطابع الجهادي والعنيف على مستوى العالم، وفي المكان المتميز الذي تحتله في خطاب وأدبيات تلك الجماعات باعتبارها القضية الرئيسية التي تحتشد حولها وتمارس عنفها من أجلها.
أما عن قول أصحاب تلك النظرية إن غياب الديمقراطية وهيمنة الاستبداد قيماً ونظماً وممارسات على دول ومجتمعات العالم الإسلامي كدافع للجوء عديد من أبنائها إلى الإرهاب كفكر وممارسة للتمرد على ذلك الوضع، فهو يتناقض مع قولهم إن الإسلام بخصائصه هو أصل الإرهاب فكراً وممارسة. فلو كان ذلك هو حال الإسلام الذي يعتنقه هؤلاء الذين لجأوا للغلو فكراً وللعنف والإرهاب، فلن يكون طلب الديمقراطية أو التمرد بسبب غيابها هو تفكيرهم أو مسلكهم المنطقي، فهم بهذه الخصائص الهيكلية المزعومة للإسلام سيظلون متطرفين وإرهابيين دون أي التفات أو اهتمام بالديمقراطية غياباً أو حضوراً. كذلك فلو كانت تلك المقولة الخاصة بطبيعة الإسلام صحيحة، فكيف يمكن أن نفسر ندرة عدد من ينخرطون في الحالة الإرهابية فكراً وممارسة بالقياس إلى مئات الملايين من المسلمين الذين يرفضونها على المستويين وينخرطون اليوم في المطالبة بالديمقراطية في حالة غيابها أو ممارساتها عند وجودها بالطرق السلمية والديمقراطية في مختلف البلدان المسلمة دون أي لجوء للعنف أو القوة أو الإرهاب؟
لا شك أن التفسير بسيط وواضح، وهو أن وجود تفسيرات متطرفة ومغالية للدين الإسلامي إنما هو أمر طبيعي ووارد في كل الأديان، إلا أن تحويل تلك التفسيرات النظرية لجماعات تنظيمية وأعمال حركية يستلزم دوماً دوافع قوية، يبدو واضحاً أن غياب الديمقراطية وهيمنة الاستبداد في بعض البلدان المسلمة ليس من بينها، حيث إن هذا الغياب والهيمنة مستمران منذ وقت طويل ولم يؤديا في أي مرحلة سابقة لنشأة تلك الظاهرة الإرهابية.
أخيراً، فإن حجة غياب الديمقراطية وهيمنة الاستبداد في بعض البلدان المسلمة كدافع للإرهاب تتناقض جذرياً مع كثير من الوقائع التي عرفها العالم خلال الأعوام الستة الأخيرة. فقد وقعت هجمات إرهابية في بلدان مثل بريطانيا، إسبانيا، تركيا، المغرب، لبنان، وإندونيسيا، وهي كلها إما بلدان ديمقراطية كاملة وإما شبه ديمقراطية، ومع ذلك فلم يحل ذلك دون تعرضها لتلك الهجمات التي نفذ بعضها رعايا ومواطنون كاملي الأهلية فيها.
الخلاصة هنا هي أن الظاهرة الإرهابية الحالية التي يواجهها العالم منذ هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 لا يمكن الاقتصار في تفسيرها على عوامل بسيطة أو وحيدة، كما لا يمكن إعطاء الأوزان النسبية نفسها للعوامل العديدة التي وقفت وراء ظهورها وانتشارها في مختلف مناطق وبلدان العالم، فهي تختلف في تأثيرها ودورها من مكان إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى، وهي الأمور التي تتناقض كلها مع التفسيرات والمقولات المختزلة والمتعسفة التي يقدمها أصحاب النظرية في تفسير الإرهاب التي ناقشناها في هاتين المقالتين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي