الفحم يلطّخ صفحة «سينج» الناصعة

مؤسف ما يحدث اليوم في الهند لواحد من أفضل قادتها وأكثرهم إنجازا، بل واحد من أفضل زعماء العالم وأكثرهم علما وتواضعا وتقشفا. لكنها الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات التي يجب أن يخضع لها الجميع في هذه البلاد طالما ارتضتها لنفسها طواعية بُعيد استقلالها.
بعض مواطنيه قال عنه إنه اقتصادي بارع لكنه سياسي ضعيف ومجرد دمية تحركها زعيمة حزبه "سونيا غاندي"، فيما قال آخرون إنه رجل الدولة المناسب المنتمي إلى الحزب الخاطئ. وصفته "الإندبندنت" بأنه واحد من أفضل قادة العالم الذين يصلحون كمرجع في إدارة الدولة سياسيا واقتصاديا. وفي عام 2010 وصفته "نيوزويك" بأنه الزعيم الذي يحبه زعماء العالم الآخرون ويحظى باحترامهم، ووصفه محمد البرادعي بأنه النموذج الذي يجب أن يحتذي به كل سياسي، ووصفه الصحافي الأسترالي الشهير "جريك شرايدان" بأنه أعظم رجل دولة في تاريخ آسيا وقالت عنه مجلة "فوربس" إنه أفضل رئيس حكومة هندية منذ نهرو.
هذا الشخص هو رئيس الحكومة الهندية السابق الدكتور مانموهان سينج الذي خرج من السلطة العام الماضي بعد هزيمة حزب المؤتمر في الانتخابات العامة أمام حزب بهاراتيا جاناتا. و"سينج" سيذكره التاريخ الهندي على أكثر من صعيد. فهو الشخصية الوحيدة من أقلية "السيخ" التي تزعمت الهند، وهو السياسي الوحيد في تاريخ الهند بعد نهرو الذي تمكن من العودة إلى الحكم بتفويض شعبي قوي في انتخابات نيابية متتالية.
لكن دعك من كل هذا، وتأمل إنجازه الأكبر الذي فتح له أبواب المجد وجعله يصعد من لا شيء إلى كل شيء. فمن بعد سنوات من دراسة الاقتصاد في جامعات البنجاب وكمبردج وأكسفورد، والتنقل بين وظائف بروفيسور في كلية دلهي للتجارة العالمية، ومستشار في وزارة التجارة الخارجية، ومستشار في وزارة المالية، وحاكم لمصرف الهند المركزي، وموظف لدى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في جنيف، ونائب لرئيس مفوضية التخطيط، والأمين العام لهيئة الجنوب التابعة للأمم المتحدة في جنيف، ومستشار لرئيس وزراء الهند للشؤون الاقتصادية، قام رئيس الحكومة الهندية الأسبق ناراسيمها راو في عام 1991 باختياره كوزير للمالية، مكلفا إياه بإخراج الهند من واحدة من أحلك وأصعب فتراتها. في ذلك العام، الذي صادف اندلاع حرب الخليج الثانية وانقطاع التحويلات المالية للهنود العاملين في العراق ودول مجلس التعاون، كانت الميزانية الهندية العامة وميزان المدفوعات يشكوان عجوزات ضخمة، وكانت احتياطيات النقد الأجنبي لا تتعدى مليار دولار أو ما يكفي لدفع قيمة الواردات لمدة أسبوعين فقط. غير أن سينج استخدم عبقريته المالية الفذة وخبراته المتراكمة لهندسة أكبر عملية تغيير اقتصادي في بلاده، وهي العملية التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام العقول الهندية المبدعة للانطلاق في كل المجالات، وحررت التجارة، وشجعت الاستثمارات الداخلية الخاصة، وجذبت رؤوس الأموال الأجنبية لإقامة المشاريع الضخمة الكفيلة بتوفير الوظائف لعشرات الملايين من الهنود، وهكذا استطاعت الهند أن تكسر القيد الذي كان يطوق رقبتها، وتراكمت احتياطياتها من العملات الصعبة حتى وصلت في نهاية العام الماضي إلى أكثر من 300 مليار دولار! فحق للرجل أن يلقب بـ "دينج هيسياو بينج الهند" في إشارة بليغة إلى تشابه ما فعله دينج في الصين مع ما فعله سينج في الهند لجهة الإصلاحات الاقتصادية التي نقلت بلديهما من حال إلى حال.
صاحب هذه الإنجازات، الذي تأثرت شعبيته سلبا بقصص الفساد التي لم تكن له يد مباشرة فيها، طلب أخيرا منه ومن خمسة آخرين "من بينهم قطب الصناعة كومار مانجالارم بيرلا، ووزير التعدين السابق بي سي باراخ" المثول أمام محكمة هندية خاصة في الثامن من نيسان (أبريل) القادم للنظر في تهم موجهة له بالتآمر الجنائي والفساد وخيانة الأمانة في ما يعرف بـ "قضية الفحم". وملخص القصة هو الزعم بارتكابه مخالفات حينما كان يشغل منصبي رئيس الوزراء ووزير الفحم عبر بيع (تخصيص) نحو 200 منجم للفحم في الفترة بين 1993 و2010 دون طرحها في مناقصات تنافسية، منها بيع حقل فحم في ولاية "أوريسا" عام 2005 إلى شركة هيندالكو التي يملكها الملياردير الهندي "كومار مانجالام بيرلا". الجدير بالذكر في هذا السياق أن المحكمة العليا الهندية أقرت العام الماضي بعدم شرعية غالبية عقود قطاع الفحم التي أبرمتها حكومة سينج طوال عشر سنوات، مؤكدة ما كان يتردد من أنّ الأخيرة باعت حقول الفحم بثمن بخس وتسببت في خسارة خزانة الدولة لعشرات المليارات من الدولار، علما بأن الهند هي واحدة من أكبر منتجي الفحم على مستوى العالم، وتحصل منه على أكثر من نصف احتياجاتها من الطاقة.
والمعروف أن سينج أدلى بتصريحات في عام 2013 نفى فيها ارتكابه لأي نوع من المخالفات ودافع فيها عن قراراته بشأن تخصيص مناجم الفحم، والمعروف أيضا أن الرجل استجاب أكثر من مرة خلال السنوات العشر الماضية، أي حينما كان في السلطة، لاستدعاءات من المكتب المركزي للتحقيقات لسماع أقواله في القضية المثارة، دون أن يتمكن المحققون من إيجاد دليل يستدعي ملاحقته قضائيا. ذلك أن أملاك الرجل وحساباته المصرفية لم تتضخم منذ تقديمه تقرير الذمة المالية فور تسلمه مقاليد السلطة في عام 2004 كي يقال إنه تربح من وراء صفقات الفحم، بل بقيت على حالها شاملة ما قيمته الإجمالية نحو مليون دولار فقط من العقارات والأموال السائلة. ومن هنا يخشى بعض مراقبي الشؤون الهندية أن تكون هناك دوافع كيدية وراء إعادة فتح هذا الملف هدفها الإضرار بالمستقبل السياسي لزعيم من زعماء الهند الأفذاذ، من خلال تشويه صورته في أعين الجماهير واتهامه بتهم تعوزها الأدلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي