هو خائف .. وأنا كذلك
في الحرب الشرسة على فيتنام في ستينيات القرن الماضي، حيث يقذف بالشباب الأمريكيين للقتال هناك تحت ذريعة الدفاع عن مصالح الأمة وحماية الشرف الأمريكي.. تساقط عشرات آلاف الضحايا منهم في أتون تلك الحرب المجنونة.. دوت أغنية شهيرة لفرقة «ببرلس Paper Lece» في أرجاء الولايات المتحدة في مطلع السبعينيات بعنوان "لا تكن بطلا.. يا بيلي" billy dont be a hero، وكانت واحدة من أبرز الاحتجاجات على حرب تم تسويفها تحت وهج تحقيق البطولة.
وإذا كانت البطولة تؤدي بالإنسان إلى الخلود، وأن لها الوزن والقيمة والاحترام ذاته عند جميع الأمم والشعوب إلا أن المستحق لها غالبا ليس هو محل اتفاق بقدر ما هو محل تضاد.. فالبطل في عرف شعب أو أمة هو في أعراف الآخرين قد يكون على النقيض تماما فجنكيز خان في نظر المغول بطل عظيم خالد لكنه في نظرنا وغيرنا من الشعوب التي عانت من جحافله سفاح طاغية.. وعلى نحو آخر ينظر الهنود الحمر في أمريكا الشمالية إلى كولومبس باعتباره قرصانا متوحشا وعدوا غازيا فيما يراه الإسبان والبرتغاليون بطلا رائدا خالدا.. أما الغربيون فيدخلون في سجل خلودهم ريتشارد قلب الأسد قائد الحملات الصليبية على بلداننا الذي نعتبره شريرا مجرما بينما نمجد في الوقت ذاته صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ونراه بطلا خالدا إلا أنه على العكس من ذلك في عيون الغرب.
هذا التصور للبطولة ليس تشكيكا في قيمتها ومكانتها في النفوس، ولا في عظمة من حازها على أساس المعايير النبيلة للإنسانية وإنما هو مدعاة للتساؤل عن مدى مسؤوليتها عما يعانيه البشر من حروب وتدفق حمامات الدماء، ما إن يتوقف حمام منها حتى يتدفق حمام آخر.
ترى.. هل تتربى المسؤولية على ثقافات الشعوب والأمم وأنها هي مصدر شحن المشاعر القومية أو الوطنية بالمعنى الاحتكاري الخاص للبطولة النافي لها على الجانب الآخر؟ وإذا كان هذا هو الصحيح.. ألا يعني ذلك مسؤولية الهوية والأيديولوجيا عن الدفع بالإنسان كي يبرهن على التزامه باستحقاقاتهما إلى أن يلعب دور البطولة من أجلها أو على الأقل تمجيد البطولة حين يلعبها أحد من قومه؟ وأنه بسبب ذلك تتدافع كل الأمم في صدام لا ينقطع تحت وطأة حيازة البطولة من خلال مزاعم حراسة الهوية والأيديولوجيا التي غالبا تتم بالعنف.. ولتصبح البطولة المجيدة هي (الطاعن والطعين.. الجرح والسكين) لتحقيق مطامعنا وأنانيتنا بها ومن خلالها على حساب غيرنا والعكس صحيح...
ألم يقل الشاعر القديم ذو الأصبع العدواني:
"الله يعلم أني لأحبكم
ولا ألومكم إن لم تحبوني
لو تشربون دمي لم يرو شاربكم
ولا دماؤكم جمعا ترويني".
ثم.. ألم يقل كذلك الشاعر عمرو بن كلثوم:
"بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا".
هكذا.. دم.. وماء كدر.. وما شابه ذلك من عنف وخوف وإذلال.. بسبب ماذا؟ بسبب البطولة فقد كانت تحريضا على العداوة.. حدث هذا في الجاهلية كما كان في ملحمة الإلياذة اليونانية وملحمة جلجامش السومرية منذ آلاف السنين.. فالدم والموت هما ثمن البطولة وتذكرة باحة الخلود.
ولا يبدو أن البشرية في سبيلها إلى الشفاء من هذا التهافت على هذه البطولة تحت ضغط الهوية والأيديولوجيا لحرب وعنف وعداوات يفرضها بعض البشر على بعضهم، دون أن تفلح مؤسسات السلام ومواثيقه وثقافته وأناشيده حتى اليوم في لجم هذا الهولوكوست الكوني المسموح له بالتمادي إكراما لبطولة ملتبسة في الأساس فهي الشيء ونقيضه بفعل ما نعتقد أو ما نقدم على فعله.. الأمر الذي يقتضي فك هذا الالتباس بين البطل والعدو (البطل الضد)، أي بين الأنا والآخر.. وقد جازف مفكرون ومبدعون بمقاربة ذلك.. ومنهم الشاعر محمود درويش في مونولوجية الداخلي إزاء الآخر الغريب جليسه على الطاولة في المقهى.. ذاك الذي احتل وطنه.. فقال:
"هُوَ هادِئٌ، وأنا كذلكَ
يَحْتَسي شاياً بليمونٍ،
وأَشربُ قهوةً،
هذا هُوَ الشيءُ المغايرُ بَيْنَنَا.
هُوَ يرتدي، مثلي، قميصاً واسعاً ومُخططاً
وأنا أطالعُ، مثلَهُ، صُحُفَ المساءْ.
هو لا يراني حين أنظرُ خِلْسَةً،
أنا لا أراه حين ينظرُ خلسةً،
هو هادئٌ، وأنا كذِلكَ.
يسألُ الجرسونَ شيئاً،
أسألُ الجرسونَ شيئاً...
قطَّةٌ سوداءُ تعبُرُ بَيْنَنَا،
فأجسّ فروةَ ليلها
ويجسُّ فَرْوَةَ ليلها...
أنا لا أقول لَهُ: السماءُ اليومَ صافيةٌ
وأكثرُ زرقةً.
هو لا يقول لي: السماءُ اليومَ صافيةٌ.
وأكثر زرقة
أنا المرئيُّ والرائي.
هو المرئيُّ والرائي
أحرِّكُ رِجْليَ اليُمْنَى
يحرك رجلَهُ اليُسْرى
أدندنُ لحن أغنيةٍ،
يدندن لحنَ أُغنية مُشَابهةٍ.
أفكِّرُ: هل هو المرآةُ أبصر فيه نفسي؟
ثم أَنظر نحو عينيه، ولكن لا أراهُ...
فأتركُ المقهى على عَجَلٍ.
أفكّر: رُبَّما هو قاتلٌ، أو رُبّما
هو عابرٌ قد ظنَّ أني قاتلٌ
هو خائِفٌ، وأنا كذلكْ!!".
في هذا النص لشاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش تتراخى البطولة والعداوة ويرتبك الشك المتبادل دون كلام في إشارة مكثفة الدلالة إلى دور الشحنة التاريخية الثقافية ومفاعيلها في الرجلين.. وإلا فإن درويش يرى الآخر مثله.. شبيها به أو أنه يكاد أن يكون هو.. سواء في الهدوء أو في الخوف.. ليقول لنا: إن ظنوننا تصنعنا.. لأن ثقافتنا وتواريخنا تصنعنا.. وهي صناعة لا تلعب لصالح الأخوة الإنسانية وإنما لصالح الخوف الذي يكرس العداوة فيدفع بنا لكي نكون أبطالا خالدين في عيون شعوبنا.. وأن لا سبيل إلى الإنسانية والسلام سوى أن يعاد النظر في معنى البطولة والخلود من خلال إعادة النظر في المبررات التي تتخذ من الهويات والأيديولوجيات ذرائع لاستمرار العداوة وإدارة المشهد الكوني على أساسها حيث يدفع الجميع الثمن الفادح، إن لم يكن في وقت مضى أو في وقت حاضر فسيكون في وقت قادم.. ولا استثناء... فالتاريخ منذ غابره سجل دموي لهذه البطولة الملتبسة من أجل خلود لم يطرد من باحته من كانوا أخيارا ولا من كانوا أشرارا.