الطريق إلى إنشاء منظمة الدول المصدرة للغاز (1)
في مقال سابق منشور في جريدة "الاقتصادية" بتاريخ 2/9/1427هـ الموافق 24/9/2006 تناولنا المكانة المهمة التي يتبوأها الغاز الطبيعي في العلاقات الاقتصادية الدولية واحتمال إنشاء منظمة دولية تضم الدول الرئيسية المصدرة للغاز على غرار منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك".
والمتابع لأوضاع الطاقة على الصعيد الدولي يلاحظ تجدد الحديث في الآونة الأخيرة عن احتمال إنشاء منظمة دولية للغاز بشكل لافت للنظر, ونرصد بإيجاز في السطور التالية أبرز المستجدات في هذا الشأن ثم نعلق عليها.
أولا: في يوم الجمعة 4/8/2006 وقعت شركة غاز بروم الروسية العملاقة, التي تحتكر قطاع الغاز الروسي وشركة سوناطراك الجزائرية اتفاقا أطلق عليه اسم (مذكرة النوايا), يستهدف إرساء أساس للتعاون بين الشركتين, اللتين تشكل صادراتهما الإجمالية من الغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي نسبة 35 في المائة, وتضمن الاتفاق حصول شركة غاز بروم على حصة في مشروع أنبوب الغاز "جالسي" الذي يمتد من حقول الغاز الجزائرية إلى إيطاليا عبر قاع البحر الأبيض المتوسط ومن خلال أراضي جزيرة سيردينيا الإيطالية. وأفادت تقارير إعلامية أنه من غير المستبعد احتمال أن تنضم الشركة الروسية إلى كونسورتيوم سيتولى مد أنبوب الغاز (ميد جاز) من الجزائر إلى إسبانيا. وأثار هذا الاتفاق قلقا شديدا لدى الاتحاد الأوروبي إلى درجة أن بعض خبراء هذا الاتحاد أطلقوا على تحالف الشركتين اسم "أوبك للغاز". ودعا رومانو برودي رئيس الوزراء الإيطالي الذي كان يتولى رئاسة المفوضية الأوروبية, (وهي الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوروبي), إلى الإسراع نحو بلورة سياسة موحدة للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة تهدف إلى تحقيق الاستقلال. وفي 21/1/2007 وقعت روسيا والجزائر على مذكرة شراكة بين الشركات الروسية والجزائرية في مشاريع محددة لاستخراج ونقل الغاز وتسويقه, وعلى أثر ذلك أشارت تقارير إعلامية إلى أن المفوضية الأوروبية طالبت كلا من روسيا والجزائر بتقديم إيضاحات حول اتفاقهما بشأن إنتاج الغاز. وقال أندريس بيبالجس المفوض الأوروبي للطاقة, إن "الاتفاق يثير مخاوفنا", لأن بلدان الاتحاد الأوروبي تستورد 35 في المائة من احتياجاتها من الغاز من هذين البلدين, (وإذا تضمن هذا الاتفاق اتفاقا على تحديد الإنتاج أو التحكم في الأسعار فإن ذلك سيضرب المستهلك الأوروبي).
وأكد المفوض الأوروبي أن أي اتفاق بين البلدين حول خفض الإنتاج أو الأسعار سيكون له بالطبع أثر في المستهلك الأوروبي, خاصة إذا كان المصدر الذي يمدنا بالغاز (له طابع احتكاري). وأوضح المسؤول الأوروبي أنه سيثير هذا الأمر في مباحثاته مع المسؤولين في كل من الجزائر وروسيا, من أجل الوقوف على طبيعة هذا الاتفاق وأهدافه واستيضاح آثاره في المستهلك الأوروبي. وأعرب عن الأسف لعدم تلقي الجانب الأوروبي أي معلومات بهذا الشأن من كلا الطرفين. ومن ناحية أخرى، فقد انتقد مفوض العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا الاتفاق الروسي ـ الجزائري زاعما أنه منع الجزائر من بيع حصص في مشاريعها الغازية إلى مستثمرين أجانب.
ثانيا: في الأسبوع الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2006، حذرت الوكالة الدولية للطاقة من احتمال لجوء الدول الأساسية المصدرة للغاز إلى تنسيق خططها الاستثمارية والإنتاجية لتجنب حصول فوائض وإبقاء أسعار الغاز مرتفعة.
ثالثا: في منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2006، تناقلت وسائل الإعلام خبرا مفاده أن تقريرا سريا وضعه خبراء اقتصاديون في حلف شمال الأطلسي "الناتو" حذر من خطة روسية لتأسيس منظمة للدول المصدرة للغاز تضم إلى روسيا، الجزائر، قطر، ليبيا، ودول آسيا الوسطى وربما إيران، وأضاف التقرير أن روسيا تسعى إلى استخدام سياستها في مجال الطاقة لتحقيق أهداف سياسية، خصوصا في تعاملها مع دول الجوار، مثل جورجيا وأوكرانيا.
وكان نائب الناطق باسم الكرملين ديمتري بسكوف قد أعلن مساء 14/10/2006، أن الحديث عن سعي روسيا إلى تأسيس منظمة للدول المصدرة للغاز "لا أساس له على الإطلاق"، مؤكدا "أن واضعي هذه الفكرة فشلوا ببساطة في فهم نظريتنا حول الأمن في مجال الطاقة". وأضاف "تتمثل نظريتنا في اعتماد المنتجين والمستهلكين على بعضهم البعض. والمجانين فقط من يعتقدون أن روسيا ستبدأ بابتزاز أوروبا عن طريق الغاز، فنحن نعتمد على المستهلكين في أوروبا بقدر ما يعتمدون علينا".
وعلى رغم رفض بعض واضعي التقرير وجود مسعى فعليا لدى روسيا لتأسيس منظمة من هذا النوع، يبرز التقرير التوترات المتفاقمة بين أوروبا الغربية وموسكو حول الأمن في مجال الطاقة. ويرى بعض الخبراء أن التهديد الأكبر لأسعار الغاز يصدر عن ضآلة الاستثمارات الروسية في قطاع الغاز وعن مساعٍ محتملة لدى موسكو لإقناع منتجين آخرين، كالجزائر، بالحد من استثماراتها في القطاع نفسه.
وتبلغ حصة روسيا من الغاز المستهلك في أوروبا 24 في المائة، فيما تبلغ حصة النرويج 13 في المائة، والجزائر 10 في المائة، علما أن السوق الأساسية للأخيرة تتمثل في إسبانيا وإيطاليا.
من ناحية أخرى، فإن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أخفقوا في اجتماعهم يوم الثلاثاء 14/10/2006 في الاتفاق على موقف موحد من السياسة الروسية في مجال الغاز، وضغطت بولندا باتجاه موقف متشدد في أي محادثات مستقبلية مع روسيا.
جدير بالذكر هنا إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفض المصادقة على ميثاق الطاقة الأوروبي، لأنه لا يلائم المصالح الوطنية الروسية، كما رفض الاستجابة للمطالب الأوروبية بإنهاء احتكار الدولة الروسية لخطوط أنابيب نقل الغاز إلى أوروبا، كما رفض الاستجابة للمطالب الأوروبية بفتح مجال أكبر للمستثمرين الغربيين للوصول إلى حقول النفط والغاز الروسية العملاقة. ورد على هذه المطالب بأنه يجب تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل بالسماح للشركات الروسية بالدخول إلى شبكات توزيع وتسويق النفط والغاز في دول الاتحاد الأوروبي وبالأخص بريطانيا، ألمانيا، هولندا، إيطاليا، واليونان.