لكيلا تنفجر قناة العقار فتكمل الدمار ..
اندفعت السيولة القياسية التي تنعم بها البلاد في سوق الأسهم كقناة استثمارية سهلة ومفتوحة للجميع ومغرية حتى ضاقت وانفجرت وخلفت وراءها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ما لا نعلم عنه سوى النزر القليل ، ومن ذلك الارتفاع الهائل في أسعار الكثير من المنتجات والخدمات التي انسحب المستثمرون منها خلال فترة انتعاش الأسهم ما أدى إلى اختلال ميزان العرض والطلب لصالح الطلب.
نعم لقد مرت علينا نحو السنتين ترك خلالها كل صاحب مهنة مهنته وكل صاحب تجارة تجارته وتحولوا جميعا لسوق الأسهم ـ القناة الاستثمارية المربحة – والتي تضخمت بشكل كبير وسريع لتنفجر بسرعة فاقت سرعة تضخمها ليرجع الجميع إلى سوقهم بكافة قطاعاته ليجدوه يعاني من طلب كبير مقابل عرض قليل انعكس في أسعار مرتفعة أغرت الجميع للعودة للاستثمار في قطاعاتهم على اعتبار أنها أصبحت أكثر ربحية ، ومن أهم هذه القطاعات التي اندفع لها الجميع القطاع العقاري باعتباره القطاع الأكبر والأسهل والأوضح والذي يمكن الاستثمار به دون الحاجة إلى خبرات فنية وتسويقية وقانونية كبيرة ومتراكمة ، وباعتباره قناة استثمارية مفتوحة للجميع.
هذا الاندفاع الذي نتج من هروب السيولة من سوق الأسهم بعد انهيارها، ونتج من ارتفاع أسعار الإيجارات والوحدات السكنية نتيجة الفجوة المتزايدة بين المطلوب والمعروض، أدى إلى تزايد معدلات تدفق السيولة في القطاع العقاري ما أدى إلى طلب كبير على الأراضي ومواد البناء والمكاتب الهندسية الاستشارية والمقاولين ما أدى إلى ارتفاع مفاجئ في أسعارها بشكل ينذر بأزمة إذا استمرت الأمور على حالها دون تدخل للسيطرة على المعطيات الحالية .
يقول لي أحد كبار المطورين العقاريين إن العقود التي وقعها الآن مع مقاولين تزيد على التي وقعها معهم قبل ثلاثة أشهر بنحو 25 في المائة، موضحا أن المستهلك هو من سيتحمل تلك الزيادة سواء كان مشتريا أو مستأجرا، وأن المستأجر المتاجر سيرفع من أسعار خدماته وسلعه ليغطي تلك الزيادة، وهكذا ستشهد البلاد موجة تضخم متزايدة إذا لم يتم كبح جماح هذه الزيادات الكبيرة الناشئة عن انعدام وجود إدارة متخصصة للتعامل مع الأزمات المالية لتخفيف آثارها في أفراد المجتمع وفي الاقتصاد الكلي ، مؤكدا أن أزمة الأسهم تلهب السوق السعودية دون أن يتحرك أحد بخطة مدروسة لامتصاص آثارها السلبية، التي إن تهاونا معها ستفرز آثارا سلبية هي الأخرى غير محمودة العواقب.
أحد الساكنين في شقة في عمارة مضى عليها أكثر من ثلاثين سنة يقول فوجئت بصاحب الملك يطلب رفع الإيجار من 13 ألف ريال إلى 22 ألف ريال أو الإخلاء ، وعندما ناقشته في ذلك قال لقد ارتفعت الإيجارات في كل مكان وهذه فرصتنا لتحقيق المزيد من المكاسب ، فقلت له إن أسباب الارتفاع لا تنطبق عليك باعتبار أن العمارة قديمة ، فقال إن الإيجارات مرتفعة لارتفاع الطلب مقابل العرض وعلينا أن نحقق المكاسب وأنا لست مصلحا اقتصاديا أو اجتماعيا ، وما كان من المؤجر إلا أن يرضخ بعد أن خاب أمله في الحصول على شقة أرخص من هذه التي أكلت أكثر من 50 في المائة من دخله الشهري .
ما العمل لحماية البلاد والعباد من آثار هذه الأزمة؟ أعتقد أن الوضع يحتاج منا إلى تشكيل فريق وعلى وجه السرعة لإدارة الأزمة ، نعم علينا أن نفرغ فريقا من المسؤولين والاستشاريين لمعالجة هذا الارتفاع الجنوني في أسعار العقار بموازنة العرض والطلب من خلال دفع السيولة إلى العقار الإسكاني الذي يعاني الفجوة الكبيرة والمتزايدة ، والذي للأسف الشديد يعاني قلة المستثمرين أيضا مقارنة بالعقار التجاري والسياحي ، وهذا ما اتضح لي في معرض الرياض العاشر للعقار والعمران حيث ساد فيه العرض التجاري والسياحي على الإسكاني بأكثر من الثلثين ، بل إن الوضع أسوأ من ذلك، إذ لم أر مطورا إسكانيا كبيرا قادرا على إنتاج وحدات سكنية بكميات كبيرة ومتنوعة سوى شركة واحدة .
أعتقد أنه أصبح أكثر من الضروري توجيه السيولة الكبيرة إلى المجالات التي تعاني ندرة تلك السيولة، كالقطاع العقاري الإسكاني الذي يمس حياة كل مواطن ومقيم على هذه الأرض الطيبة، علينا أن نوجه السيولة نحو تطوير أعداد كبيرة من الوحدات السكنية بكافة أنواعها (شقق، دبلكسات، فلل) وعلينا أن نوجه السيولة أيضا لتمكين المواطنين من شرائها بالأقساط الشهرية التي توازي قيمة الإيجارات التي يجب ألا تتعدى ثلث الدخل الشهري للمواطن ليستطيع أن يتكفل بالثلثين المتبقيين لمتطلبات معيشته وأسرته ، أما أن نترك الأمر لسلوكيات لسوقنا الناشئة دون توجيه فإن السيولة ستبقى تتجه بجنون إلى الأراضي البيضاء لترفعها بالشكل الذي يزيد المشكلة تعقيدا ، كما تتجه إلى العقار التجاري والسياحي على حساب الإسكاني الأكثر أهمية وحيوية وآثارا.
وتوجيه السيولة لا يكون بقرارات تعسفية بقدر ما يكون بقرارات تحفيزية وتشجيعية ، مثل سهولة الترخيص لشركات التطوير الإسكاني ، ومنحها قروضا طويلة الأمد للانطلاق في عمليات تطوير المساكن ، ودعمها بفرق عمل فنية من وزارة الشؤون البلدية والقروية ، والترخيص للمزيد من الشركات العاملة في توفير مواد البناء خصوصا الأسمنت والحديد والرمال بأنواعها ، ومعالجة مشاكل المقاولين المتعلقة باستقدام العمالة الماهرة والحصول على المعدات الثقيلة بالـتقسيط ، ومن خلال تطوير السوق التمويلية خصوصا آليات التمويل من خلال السوق المالية بتنظيم سوق السندات الأولية والثانوية ، وأخيرا إصدار نظام الرهن العقاري على وجه السرعة والسماح للبنوك برهن العقار كضمان للتمويل .
وختاما أقول علينا بالإضافة إلى توجيه السيولة للقطاع العقاري الإسكاني أن نسارع أيضا في فتح القنوات الاستثمارية الأخرى لاغتنام الفرص الرائجة في القطاعات التي تعاني شحا في المستثمرين الكبار مثل القطاع التعليمي والصحي والترفيهي والنقل والطاقة والزراعة لتحويل السيولة إلى منتجات وخدمات ذات قيمة وقيمة مضافة تحقق الاستقرار والعيش الكريم وتجنب البلاد الأزمات وإفرازاتها، وبخلاف ذلك فإني أؤكد لكم أن فقاعة العقار ستتشكل وتنفجر لتكمل الدمار الذي سببته سوق الأسهم الثانوية.