الدولة .. والانتماءات الضيقة

الاجتماع الإنساني أساسه العلاقة بين الأفراد، أو كما يسميها ابن خلدون العصبية، أي رابط يجتمع الناس عليه ويقنن علاقاتهم ومعيشتهم وتعايشهم مع الآخرين. إلا أن هذه العلاقة لا يمكن أن تنشأ وتستقيم إلا من خلال سلطة تفرض هذا التعايش السلمي وتردع الخارجين عن الإجماع. وإذا كانت الروابط تتعدد في أشكالها ومستوياتها كالعائلة والقبيلة والطائفة والتحزبات الفكرية وأصحاب المصالح الاقتصادية، إلا أن سلطة الدولة تبقى هي الإطار الأعم والأشمل والأقوى الذي يحقق قوة واستدامة الاجتماع. فالعلاقات الجزئية هي في الغالب مرتبطة برابط عاطفي يغلب عليه المصالح الضيقة الآنية، التي ربما جنحت بالمجموعة في الخروج عن المشترك والإجماع العام. ومشكلة العلاقات المبنية على العاطفة أنها تعطل التفكير وتبتعد عن المنطقية والعقلانية والموضوعية والحيادية في التعامل مع القضايا العامة والمستجدات. وهذا أمر جد خطير إذ تعمل العاطفة كحاجز منيع للتعلم وفهم ما يدور في المجتمع، على أساس من الحقائق والمعلومات الصحيحة. وهكذا تنشأ تصورات خاطئة في أذهان البعض تؤدي إلى سلوكيات غير رشيدة وغير مقبولة. فعندما يتولد شعور عاطفي بالظلم فإنه يكون منطلقا للتعامل مع الآخر، ويستمر إلى ما لا نهاية؛ لأن الظلم إنما هو مجرد إحساس خادع ووهم في المخيلة تؤججها العاطفة، وبالتالي لا يزول؛ لأنه في الأساس غير موجود؛ فهو مجرد إحساس! هذه العصبية العاطفية الصغيرة معول هدم للاجتماع الكبير "اجتماع الدولة". ولأن اجتماع الدولة يعتمد على العلاقة القانونية المحايدة التي تفرض على الجميع التساوي مع التباين في الأذواق والآراء والأوضاع، ما يعني أن بعض فئات المجتمع سيرضون إذا كان القانون يعمل لمصلحتهم وسيسخطون إذا كان العكس، من منطلق تكوينهم العاطفي ومصالحهم الضيقة، وليس التفكير المنطقي والرؤية المشتركة والمصلحة العامة. ويظهر ذلك جليا في المجتمعات النامية التي لم تبلغ بعد حد النضج في فهم مقاصد القانون العام واحترامه. إذ ما زال البعض يعتبر أن الوقوف في الصف ظلما، لأنه يرى بعاطفته أنه يحق له ولجماعته ما لا يحق لغيرهم. هذا التصور الانفرادي والخصاصة هو معضلة التنمية والتطور الاجتماعي. والمشاهد أنه كلما تطور المجتمع اقتصاديا وزادت الرفاهية الاجتماعية ونسبة التحضر، كلما زاد هامش الاختلاف السياسي، ذلك أن المجتمع الحضري أكثر كثافة سكانية وتختلف أنماطه الاستهلاكية ونوعية الخدمات المطلوبة مقارنة للمجتمع الريفي. ولذا كان لابد من تطوير أساليب إدارة الاختلاف في المجتمع بمعدل يتناسب مع معدل التنمية الاقتصادية. وهذا للحفاظ على اللحمة الوطنية وتعزيز الانتماء للدولة (المشترك الأعظم لجميع فئات المجتمع).
ما يحدث في المجتمع من حراك بعضه إيجابي وبعضه الآخر سلبي اعتمادا على المساهمة في بناء الدولة، ولذا لا بأس أن يكون هناك تعدد فكري وحتى طائفي، طالما أن هذه التجمعات تكون روافد تعزز الوحدة الوطنية وتتحاور داخل إطار المشترك وليس خارجه. وعندما يكون الاختلاف دافعه الحفاظ على المشترك وتعظيم المنفعة المجتمعية والمصلحة العامة، يكون رحمة ونماء وتطويرا، لأنه يولد أفكارا إبداعية ويقود للبحث عن الأفضل. وهنا ملاحظة مهمة، وهي أن الجدل الفكري الأيديولوجي أو المذهبي يكون جدلا لا طائل من ورائه، عندما يستهدف تسطيح الرأي الآخر وتخطئته وإثبات الذات، وليس البحث عن حلول جديدة نافعة للطرفين وللمجتمع. وهكذا تتفاقم النقاشات في موضوعات جدلية حول القيم، وليس الوسائل والدخول في دهليز مظلم ترتفع فيه الأصوات ويغيب العقل، لأن كل فريق لديه أحكام مسبقة تعطل فكره وتصم آذانه عن سماع الرأي الآخر. وهنا نستحضر نهج الإمام الشافعي- رحمه الله- في الحوار "رأيُنا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب" ما يعني أن على كل طرف التفتيش عن أخطائه والبحث عن الصواب عند الآخر، وهذا يتطلب حوارا نديا وموضوعيا وليس متعاليا وعاطفيا. وهو ما تعمل عليه الدولة، من خلال تطبيق سياسة الباب المفتوح، التي تم تطويرها من خلال المجالس النيابية، سواء على مستوى مجلس الشورى أو مجالس المناطق أو المجالس المحلية والبلدية. فهذه المجالس تمثل بنى تحتية يمكن الانطلاق منها لتعزيز المشاركة الشعبية؛ ليكون الاختلاف تحت قبب المجالس النيابية بطريقة سلمية متحضرة يحكمها القانون العام، وليس العواطف السلبية التي تؤجج نار الفتنة، فتقضي علينا جميعا وعلى مكتسباتنا الوطنية، وتقوض ثوابتنا الوطنية التي نتفيأ ظلالها. وقد أثبتت الأيام أنها مدار لحمتنا واجتماعنا واستقرارنا وأمننا وأماننا.
إن الناظر لاجتماعنا بحيادية وموضوعية يرى أنه مبني على درجة كبيرة من العدل والمساواة، وما ذاك إلا لتطبيق الشريعة. هذا لا يعني أنه لا يقع أخطاء ولكنها بكل تأكيد ليست انتقائية على فئة دون أخرى. وربما كانت هذه هي المشكلة التي يعانيها المجتمع، عندما يتلبس البعض شعورا بالظلم أساسه التفرقة (أيا كان نوعها)! ولا تنظر إلى أن الخطأ قد يكون فنيا بيروقراطيا يقع على الكل. وقد يشاركني من يمتلكون الحكمة والموضوعية في أنه ليس هناك من يستطيع إثبات أنه وقع عليه ظلم بسبب انتمائه القبلي أو المذهبي أو المناطقي. فالدولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وإن كان هناك تفاوت أو تمييز فهو بمقدار المساهمة في التنمية وقوة الانتماء والجدارة في العمل. وأجد من العيب أن يشكك الواحد منا في عدالة الدولة التي تشهد الوقائع بأنها تتعامل مع جميع أبنائها بالعدل والمساواة. والدليل أنك تجد أغنياء وفقراء ومتعلمين وغير متعلمين وموظفين في مناصب عليا ومناصب دنيا من جميع فئات المجتمع. هذا أمر يجب أن يعيه الجميع ونرتقي بمستوى تفكيرنا وننفك من قيود الانتماءات الصغيرة العاطفية التي تعشعش في عقولنا؛ فتعظم الأخطاء وتختزل الإنجازات، وترى الأمور من منطلق فئوي أو طائفي ضيق. الدولة هي أنا وأنت بعقد اجتماعي شرعي لتحقيق المصلحة العامة، وإن كان هناك أخطاء في التطبيق؛ فنحن نظل مجتمعا إنسانيا يعترينا ما يعتري المجتمعات الأخرى من نقص، ولكن يجب أن نوسع مداركنا وأفق تفكيرنا، ونتذكر أن الأخطاء تقع على الجميع وليس على فئة دون أخرى. والحكمة تقتضي أن نرى الإيجابيات وما يحقق التعايش السلمي ويعزز المشترك ويطور الاجتماع؛ لأن ذلك من مصلحتنا جميعا. الوطن عقيدة، وحبه إيمان، والدفاع عنه شرف وشهادة، وهو استحقاق بناه الأجداد والآباء وسيبقى - بإذن الله - منارة للحب والسلام والقوة والمنعة بأبنائه المخلصين في انتمائهم لدولة الشرع والشرعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي