معالجة البطالة: معا.. يداً بيد!
من الظواهر الإيجابية التي طرأت على مجتمعنا أننا بدأنا نناقش مشاكلنا المختلفة بواقعية وصراحة وبعقول منفتحة. وهي خطوة أولية مبشرة، نأمل أن تنقلنا لصياغة حلول وبرامج عملية واضحة وملزمة تخفف من حدة هذه المشاكل، ثم نطورها لتصبح جزءا من نظامنا الاجتماعي العام، حيث لا تتغير كثيرا مع تغير الظروف وتقلبات عوائد النفط. إنني أخشى أن تمرق الطفرة الراهنة دون أن يشعر الناس بأثرها على حياتهم ومستوى معاشهم، فيترحمون على طفرة السبعينيات السابقة.
ما زال مجتمعنا يعاني من تحديات عديدة، من أخطرها مشكلة تفشى البطالة. وكانت " الاقتصادية " قد نشرت يوم السبت الماضي تصريحا لمعالي الدكتور غازي القصيبي وزير العمل، شخص فيه الحالة وبين للعاطلين ماذا عليهم أن يفعلوا. فقد أشار معاليه إلى أن أغلب العاطلين عن العمل هم من ذوي المؤهلات المتدنية (الثانوية وما دون)، أو هم من ذوي المؤهلات الجامعية النظرية التي لا يطلبها السوق. وقال إن وزارة العمل لم تكن مسؤولة عن تعليم العاطلين أو تخريجهم، وأن الوزارة لا تنتج وظائف لتقدمها للعاطلين من الناس، ولكنها جهة تنسيق وتدريب تبحث للعاطلين عن وظائف في القطاع الخاص، ضمن إطار تشريعات الدولة وسياسات وزارة العمل في الاستقدام وسعودة الوظائف وتوطينها. ومن ثم فإن الوزارة لا تستطيع أن تفرض على المؤسسات الخاصة أفرادا غير مؤهلين لأداء الوظائف المطلوبة، لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى تدني الإنتاجية وارتفاع التكاليف. وأضاف معاليه، أن وزارة العمل لا تقوم بتوجيه أي عاطل عن العمل إلى القطاع الخاص قبل أن يحصل على التدريب الذي يؤهله لوظيفة محددة. وأضاف أن على طالبي العمل أن يقبلوا بمستوى الرواتب الذي يناسب مؤهلاتهم ومستوى تدريبهم. وإذا أرادوا مستوى رواتب أفضل فعليهم تطوير مهاراتهم وقدراتهم. ثم أشار إلى أن بعض العاطلين يعتقدون أن هويتهم السعودية تكفي لفرض توظيفهم وتعيينهم بالرواتب التي يرغبون! وأن لدى البعض من العاطلين نظرة غريبة تجاه بعض المهن ( كالحلاقة والسباكة والطهي ونحوها)، لأنهم يترفعون عنها، وهي نظرة لا نجدها لدى بقية المجتمعات بما فيها المجتمعات المتقدمة اقتصاديا. ثم أكد معاليه أن هناك اليوم فرصا كبيرة متاحة للعمل في ظل النهضة التنموية الشاملة التي تعيشها المملكة هذه الأيام!! وأن المسؤولية الأساسية تقع على عاتق الأسر وعلى العاطلين أنفسهم في الاستفادة من فرص التدريب المجانية المتاحة للجميع لتأهيل طالبي العمل للوظائف الموجودة أو المستحدثة. وأنا أوافق معاليه على بعض ما قال وأتحفظ على بعضه الآخر.
والحقيقة أن مشكلة البطالة هي نتيجة تراكم عوامل عديدة تجمعت خلال فترة من الزمن. ولذلك وكما قلت في لقاء أجرته معنا إحدى القنوات الفضائية المتخصصة في اليوم نفسه الذي نشر فيه تصريح الدكتور القصيبي، وشاركني فيه من الرياض أخي الدكتور عبد الرحمن السلطان، أن وزارة العمل تتصدى لأمر صعب وهي في وضع لا تحسد عليه. لكني ألاحظ أننا ما زلنا نكتفي بإلقاء اللوم على العاطلين وحدهم ونحملهم كل المسؤولية، ونادرا ما نعترف أنها مسؤولية تضامنية جماعية. فالواقع أننا جميعا مسؤولون عن ما آلت إليه أحوال شبابنا وشاباتنا. ولو كان تدني مستوى التحصيل العلمي أو مستوى التدريب والتأهيل، خاصا بعدد محدود منهم لقلنا فعلا إنها مسؤوليتهم بالدرجة الأولى. أما عندما تكون ظاهرة عامة فإنها تصبح مسؤولية مجتمع ومسؤولية حكومة. فالحكومات في كثير من بلاد الدنيا, في يوم الناس هذا، أضحت مسؤولة عن تخطيط وتطوير وتنمية برامج القوى العاملة لمواطنيها.
إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أننا نحصد ما زرعنا. هناك جهات عديدة مسؤولة عن هذه المشكلة منها: نظامنا التعليمي المترهل، وتخطيطنا الاقتصادي الفضفاض، ونظامنا الإداري المتهالك، وسكوتنا عن الفساد الإداري ( المتاجرة برخص الاستقدام، وتعطيل قيام المشاريع) أو الموجود في بعض مؤسساتنا الخاصة (تعارض المصالح بين الأجانب المسؤولين عن التوظيف في المؤسسات الخاصة وطالبي العمل من المواطنين). ومادام الأمر كذلك، فيجب أن يتحمل المجتمع ككل جزءا كبيرا من هذه المسؤولية. ومن الخطأ تحميل القطاع الخاص أو العاطلين عن العمل وحدهم مسؤولية هذا الوضع. من مصلحتنا كأمة ومجتمع أن نجد حلولا عاجلا للعاطلين، وبرامج أخرى طويلة الأجل تضمن عدم استفحال البطالة مستقبلا. عندما نتكلم عن شباب لا يجدون مصدرا للرزق، فنحن نتكلم عن حاجات أساسية للبشر، لا عن حاجات كمالية وترفيهية.
لقد تاهت بوصلة اتجاهاتنا، وغدا لدينا خلل في الأولويات. وسأضرب مثالا عن خلل هذه الأولويات من واقع البيئة التي أعمل فيها، وعلينا أن نقيس عليها بقية الصور في مجتمعنا. فمنذ عقدين وأنا أنبه في المجلس العلمي في الجامعة التي أعمل فيها، أننا نرتكب خطأ كبيرا بتجميد وتعطيل وظائف المعيدين، لأنه سيأتي وقت نعود فيه للنقطة التي كنا عليها قبل 40 عاما، عندما يتقاعد أساتذة الجامعة تباعا فنجد أنفسنا مضطرين للاستعانة بالأجانب كما كنا في أول عهدنا في التعليم الجامعي! وقد بدأ هذا الوضع يتحقق بالفعل في جامعاتنا منذ أربع سنوات! ويحق للمرء إزاء مثل هذه الأوضاع أن يتساءل: ألم يكن أجدر وأولى في ترتيب الأولويات أن نخصص مواردنا للاستثمار في الإنسان، بدلا من تأخير ترتيبها لصالح أنشطة ترفيهية ورياضية ومهرجانية؟
وما دام أن المسؤولية كانت جماعية فعلينا احتواء هذه المشكلة مرحليا بتوسيع فرص العمل الحكومي المدني والعسكري، ومنح تعويضات بطالة بضوابط محددة، وإصلاح الخلل في سوق العمل، وتوسيع برامج التدريب وإعادة التأهيل المجانية بكثافة، وتشجيع الفتية على إنشاء وتملك مشاريع صغيرة، وتحميل الشركات القيادية جزءا من هذه المسؤولية ( البنوك والمصانع والمؤسسات الخدمية والتجارية الكبيرة) وليكن لهم في برامج عبد الطيف جميل لخدمة المجتمع مثالا وقدوة. وعلينا أيضا التصدي بجدية للفساد الإداري، والاستمرار بعزيمة صادقة في برامج التطوير والإصلاح في مرافق حياتنا كافة، وإلا فإن الثمن الذي سيترتب على هذه المشكلة وسواها سيكون مكلفا ومؤلما. لنضع طعامنا على مائدة واحدة ونبدأ في الإصلاح، لمصلحتنا ومصلحة الاستقرار في بلادنا.