شيـخ أبديـرا
اسمه ديموقريطس عاش في الفترة من 460 وحتى 360 قبل الميلاد في أبديرا إحدى مدن مقاطعة تراقيا، المستوطنة اليونانية شمال الأناضول، وقد تخطى هذا الرجل الأزمنة، كان قد قرر أن ينهي حياته بالجوع أو هكذا قيل!!
أخواته البنات رجونه أن يؤجل موته، بكين عنده: "أبق على حياتك يا ديموقريطس حتى يمر العيد فقط" فقد كان عيد "ديميترا"، الذي تحتفل به نساء اليونان قبل نحو 2500 عام على الأبواب.
لجأن إلى حيلة ماهرة لإنقاذ حياة هذا العجوز المنصرف عن الناس في الجبال والكهوف المظلمة للتأمل والتفكر. وقدّمن له خبزا طازجا حارا، طلبن إليه فقط أن يستنشق رائحته لتنعشه حتى يتمكن من حضور الاحتفال. وافق الفيلسوف العجوز، نجحت حيلتهن، التهم الخبز ولم ينتعش جسده فحسب وإنما انتعش كذلك ذهنه فقد شغلت رائحة الخبز تفكيره بأسئلة ملحاحة: كيف وصت رائحة الخبز إلى الأنف، لماذا حدث هذا؟ وكيف انتقلت؟ وبعد تأمل وتفكير عميقين انتهى إلى اكتشاف أن كل المواد تتكون من جسيمات دقيقة جدا، مجهرية، لا تُرى بالعين المجردة، أطلق عليها "ذرات" فنحن نشم الخبز لأن ذرات منه تنفصل عنه وتسبح في الهواء حتى تصل إلى أنوفنا فنحسها، وهكذا وضع هذا الرجل في اكتشافه "الذرة" ربما أخطر ما عالجه العلم الحديث، وقد وضع نظريات فيها!!
اتهمه معاصروه بالجنون، أرسلوا إليه الطبيب أبو قراط ليتحقق من عقله، حاوره، قضى معه وقتا ثم خرج إلى الناس ليقول لهم إن المجنون هو من يعتقد بأن ديموقريطس مجنونا، بل إنه لحكيم عظيم، وإذا كان يضحك من كل شيء فلأنه يرى حياة الناس تفتقر إلى الاعتدال والعقل، وإذا كان يعيش منعزلا فهذا لأنه يكتب رسالة عن الجنون!!
ومن أعجب ما روي عن ديموقريطس أنه، لولعه بالتأمل، فقأ عينيه حتى لا تصرفانه عن عميق التفكر وأنه قال على أثر تلك الحادثة: "البصر يحد من البصيرة!!" ومع ذلك، ورغم كل هذه القسوة على نفسه والعزلة التي اختارها فقد اشتهر بلقب الفيلسوف الضاحك، لأنه فعلا كان يسخر من تهافت الناس على المتع والأطماع وجلبة الدنيا وقد قيل إن ملك فارس "داريوش" حين فجع بموت زوجته الملكة وحاصره الغم والكمد حزنا عليها أرسل إليه يطلب منه العزاء والنصيحة فرد عليه ديموقريطس: إذا استطعت أن تأتيني بثلاثة أشخاص فقط لم يذوقوا في حياتهم من كأس الآلام سأعيد لك الملكة المتوفاة. فلما عجز الملك عن العثور على الثلاثة أشخاص فهم قصد الفيلسوف وشفي من مصابه.
يعتبر هذا الفيلسوف رائد الفلسفة المادية والتجريبية ونظرية المعرفة والأشد تأثيرا من سقراط وأفلاطون في دنيا العلوم التطبيقية، لأن الآخرين كانا رائدين في الفلسفة الميتافيزيقية أو المثالية، كرّس حياته للدفاع عن مبدئه الذري، قال إن الفضاء لا نهائي وإن عدد الذرات لا نهائي وإن الكون يشتمل على عوالم شديدة التنوع وكبيرة الأعداد وعالمنا الذي نعيش فيه فقاعة ضمن فقاعات كونية ومراكز بعض هذه الفقاعات بلا شموس وبعضها يحتوي على أشكال أخرى من الحياة، وأن درب التبانة الذي نراه ما هو إلا حاصل أنوار جمع هائل من النجوم، تماما مثلما اكتشف العلم الحديث!!
كان رجلا جسورا شجاعا وقد حاول مجموعة من الفتيان الأشقياء التحقق من ذلك فلبسوا ملابس تنكرية ودهموه ليرعبوه وهو معتزل في الغار يتأمل فلم يبد عليه أي أثر للخوف، بل صاح فيهم: كفوا عن هذه السخافات!! كذلك كان ديمقريطس شديد النفور من الإساءة إلى كرامة الفقراء، وفي زمنه كان القانون يحرم الفقراء من حق إقامة المآتم على أولادهم، فقام بكتابة بحث علمي عميق حول الموضوع لإبطاله تلاه على مواطنيه فأشادوا به وقدروه أعظم تقدير وقدموا له مكافآت سخية وأقيمت له النصب التذكارية تمجيدا له وأصدرت السلطات مرسوما خاصا به يقضي بأن تدفع الحكومة نفقات مأتمه هو بعد مماته!!
عاش الرجل قرابة 100 عام وخلف من الآثار الكثير ضاع معظمها، وقيل إنه نجح في صنع زمرد صناعي ونجح في أن يذيب الصخر ويصقل العاج، وقد بلغ من حماسه للدراسة أنه قال: (إن اكتشاف أحد أسرار الطبيعة أغلى عندي من تاج بلاد فارس).