تراجع التنمية في دول العالم النامي
لقد أدت التوترات الدولية، وخاصة في مجال التجارة، إلى زعزعة العديد من جوانب اليقين بشأن السياسات التي أسهمت بعد الحرب العالمية الثانية في تقليص معدلات الفقر المدقع وزيادة الرخاء. ففي هذا العام وحده، تُظهر التوقعات أن هذه الاضطرابات ستخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو نصف نقطة مئوية عما كان متوقعاً، ليهبط إلى 2.3%. وهو أضعف أداء منذ 17 عاماً باستثناء فترات الركود العالمي الواضحة. وبحلول 2027، من المتوقع أن يبلغ متوسط النمو في العِقد الحالي 2.5% فقط، وهي أبطأ وتيرة على مدى عقود منذ الستينيات.
لم تظهر هذه التحديات فجأة، بل كانت واقعاً تجلى بوضوح على مدار أكثر من عقد من الزمن. فعلى مدى 3 عقود، ونمو الاقتصادات النامية يتراجع بصورة تدريجية من 5.9% خلال العِقد الأول من الألفية، وصولاً إلى 5.1% في العِقد التالي، ثم 3.7% خلال هذا العِقد. يتزامن هذا التراجع مع انخفاض معدلات نمو التجارة العالمية من متوسط قدره 5.1% في العِقد الأول من الألفية إلى 4.6% في العِقد الثاني، ثم إلى 2.6% خلال هذا العِقد. وفي الوقت نفسه، ينمو الاستثمار بوتيرةٍ أضعف تدريجياً، وتتراكم الديون.
خلاصة القول: خلال الـ50 عاماً الماضية، شهدت البلدان النامية معجزة اقتصادية حيث تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 4 مرات ونجا أكثر من مليار شخص من الفقر المدقع. اليوم، بدأت عديد من القوى التي أسهمت في هذه المعجزة تسير في الاتجاه المعاكس. وقف واضعو السياسات مكتوفي الأيدي، على أمل أن تتحسن الظروف، لكن هذا الأمل كان سراباً، وكان لزاماً تدارك الأمر والبدء في مسار التصحيح. يحدد هذا التقرير 3 أولويات:
أولاً، إعادة بناء العلاقات التجارية. الأدلة والشواهد واضحة: التعاون الاقتصادي أفضل من أي بدائل أخرى لجميع الأطراف. وتشير تحليلاتنا إلى أن حل النزاعات التجارية الحالية من خلال اتفاقيات تخفّض الرسوم الجمركية إلى النصف مقارنةً بمستوياتها في أواخر مايو 2025 يمكن أن يعزز النمو العالمي بنحو 0.2% في المتوسط خلال عامي 2025 و2026.
ثانياً، استعادة ضبط أوضاع المالية العامة. من الإنصاف أن نقول إن تعاقب الصدمات الاقتصادية خلال هذا العِقد قد خلخل استقرار المالية العامة في عديد من الاقتصادات النامية. لكن هذه الصدمات لم تكن السبب الوحيد: ففي عصر تيسير الائتمان والحصول على القروض الذي سبق جائحة كورونا (كوفيد-19)، لجأت الحكومات إلى مزيد من المخاطرة لفترات طويلة وممتدة.
ينبغي للاقتصادات النامية توسيع نطاق حيز المالية العامة حتى يتسنى لها التغلب على هذه التحديات. وعليها بذل جهود كبيرة في هذا المجال، حيث تجمع إيرادات أقل بكثير مقارنةً بالاقتصادات مرتفعة الدخل، إذ تبلغ نحو 25% من إجمالي الناتج المحلي، مقابل نحو 40% في الاقتصادات الأكثر ثراءً. كما ينبغي لها أن تكثف جهودها لتعبئة مزيد من الموارد المحلية، من خلال توسيع القاعدة الضريبية وتعزيز إدارة الضرائب وتحصيلها للحد من التهرب الضريبي وتحويل الأرباح.
ثالثاً، تسريع وتيرة صنع الوظائف. يشهد العالم تحولاً ديموغرافياً تاريخياً يزيد من الحاجة إلى الوظائف في عديد من البلدان الفقيرة. إذ من المتوقع أن يتضاعف عدد السكان في سن العمل في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء تقريباً بحلول 2050، ليزيد على 600 مليون نسمة، أي أكثر مما شهدته أي منطقة على الإطلاق على مدار 25 عاماً. وفي منطقة جنوب آسيا، يُتوقع أن يزداد عدد السكان في سن العمل بنحو 300 مليون، وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكثر من 100 مليون نسمة خلال الفترة ذاتها.
يقف الاقتصاد العالمي اليوم عند مفترق طرق. فالقوى التي كانت تقود التقارب الاقتصادي وتنتشل المليارات من الفقر باتت اليوم في تراجع. بيد أن هذه اللحظة تتيح فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، من خلال تعزيز التعاون العالمي، واستعادة ضبط أوضاع المالية العامة على نحو مسؤول، وتركيز الجهود على خلق فرص العمل. ومن خلال اتخاذ إجراءات حاسمة، لا يزال بإمكان الحكومات حول العالم استعادة وتيرة التقدم في الحد من الفقر، وتوفير مستويات معيشية متنامية للجيل القادم.