هل فعلاً الإسلام هو سبب العنف؟
يبدو أن كثيراً من النخب الغربية الأوروبية والأمريكية سواء السياسية أو الإعلامية أو الثقافية قد وقعت عن عمد أو عن غفلة خلال السنوات الماضية التي تلت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) على نيويورك وواشنطن في هوة الخلط بين الإسلام كدين وتاريخ وثقافة وبين العنف الذي يمارسه بعض المسلمين باسمه. ويبدو أيضاً واضحاً في الكتابات والتصريحات السياسية والإعلامية والأكاديمية الغربية أن هناك توجها متصاعدا لاتهام الإسلام خصوصاً والأديان عموماً بأنها المحرك الرئيسي للعنف الذي يشكو منه العالم، والذي بات يسمى "الإرهاب" الذي تصوره تلك الدوائر الغربية بأنه الخطر الداهم الذي يهدد البشرية كلها.
ولا شك أن تلك النظرة الغربية للإسلام والعنف تتجاهل حقائق مستقرة عرفها التاريخ الإنساني على الأقل خلال القرن العشرين والسنوات القليلة التي مضت من القرن الحادي والعشرين، حيث إن العدد الهائل من الضحايا الذين سقطوا في مختلف بلدان العالم كان بسبب صراعات وحروب سياسية داخلية أو بين الدول ولم يكن للإسلام خصوصاً أو للأديان عموماً أي دور فيها، وتكفي هنا الإشارة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية واللتين أسقطتا نحو ثمانين مليون قتيل. ولم يبدأ ظهور الدين الإسلامي في ساحة العنف سوى بدءاً منذ الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم، وذلك بقيام بعض الجماعات والتنظيمات التي تتبنى تفسيرات وتأويلات متطرفة للإسلام وتمارس العنف باسمه. ومع ذلك ففي خلال السنوات نفسها وبصورة أخص في تلك التي تلت هجمات أيلول (سبتمبر) بدا واضحاً أن العدد الأكبر من الضحايا الأبرياء وقع نتيجة لعمليات عسكرية كبرى قامت بها دول غربية "علمانية" على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، بالرغم من تزايد عدد ضحايا العنف والإرهاب باسم الدين الإسلامي.
والحقيقة أن هذا الترويج الغربي غير المؤسس على أية حقائق تاريخية أو علمية لربط العنف والإرهاب بالأديان عموماً والإسلام خصوصاً له جذور قديمة في بعض العلوم الاجتماعية الغربية وبخاصة علم الأنثربولوجيا. فقد بذل رواد هذه العلوم جهوداً حثيثة من أجل التعرف على الجذور السحيقة للممارسة البشرية للعنف ودوافعها، أفضت إلى ظهور مجموعتين رئيسيتين من النظريات الكبرى لتفسير العنف البشري: الأولى، ربطت ما بين العنف الكامن والمستمر في تاريخ الإنسان ونفسه وبين المفاهيم والطقوس الدينية على وجه العموم والتي ولدت في مرحلة ما قبل التاريخ وبصفة خاصة مفهوم "الضحية" أو "القربان" الذي كان الإنسان يقدمه لآلهته، والذي يتضمن بحكم طبيعته إراقة دماء تلك الضحية – أي ممارسة الحد الأقصى من العنف وهو القتل أو الذبح – من أجل غرض ديني مقدس. أما المجموعة الثانية من النظريات فقد اتجهت نحو تأكيد العلاقة بين ولادة العنف البشري وبين الظروف الطبيعية القاسية التي عرفها الإنسان الأول، ثم من بعدها الشروط الأكثر قسوة التي رافقت الصراع الضاري بين الأفراد والجماعات حول مصادر الاستمرار في الحياة، أي المأكل والمشرب ثم الإنتاج ووسائله. وعلى تعدد نظريات هاتين المجموعتين الرئيسيتين وغيرهما، فقد أتت علوم أخرى غربية وشرقية في مقدمتها علم التاريخ وعلوم السياسة لكي تؤكد أنه بغض النظر عن صحة أي من النظريتين السابقتين حول ولادة العنف البشري، فإن ما عرفه التاريخ البشري خلال مسيرته الطويلة من عنف وصراعات وحروب وجد تفسيره في المجموعة الثانية من النظريات المشار إليها وليس المجموعة الأولى.
ويبدو بذلك أن هذا الانحياز من بعض الدوائر الغربية لربط العنف الدائر اليوم على الصعيد العالمي بالدين الإسلامي تحديداً يعكس أمرين مهمين. الأول العودة لتفسير ظاهرة العنف الحديث الدائر في العالم إلى النظريات الأنثربولوجية التي سعت لربط نشأته بالأديان، بالرغم من أن المطروح اليوم ليس هو تفسير نشأة العنف بل تفسير وقوعه بصوره الحالية. وفي سعي أصحاب تلك العودة لهذه النظريات لتأكيد رؤيتهم تجاهلوا الحقائق والإحصائيات الثابتة التي ترسم خريطة العنف المعاصر وتؤكد أن معظمه سياسي ورسمي وليس دينياً وبالتحديد ليس إسلامياً. أما الأمر الثاني فهو أن هذه الأصوات الغربية التي تربط العنف بالإسلام تنقسم إلى مجموعتين متناقضتين لا يجمعهما سوى ذلك الاتهام: الأولى تتكون من المعادين للأديان عموماً – وهم الأغلبية – والمنسجمون مع التجربة الغربية الأوروبية في فصل الدين عن الدولة والسياسة، والثانية من المتدينين المسيحيين واليهود الغربيين الذين يكنون مشاعر عدائية عميقة للدين الإسلامي ويرون أنه دين "عنيف" بحكم طبيعته.
الخلاصة أن ترويج بعض الغربيين اتهام الإسلام بأنه مصدر العنف والإرهاب الرئيسي في عالمنا المعاصر يعكس انحيازات واضحة وأخطاءً علمية وتاريخية فادحة يصعب معها قبول ذلك الاتهام وكأنه حقيقة، فالحقائق لا تصنعها الحملات السياسية والإعلامية والأمنية، بل هي تظل ثابتة مستقرة يحفظها التاريخ بغض النظر عن قوة أو هيمنة من يروجون لعكسها.