مدرسة المبتعثين المالية .. دروس وعبر

يقارن عروض التأمين والاتصالات، يستقطع الدائنون منه معظم مصاريفه الدورية، يسد حاجياته اليومية بالعملة الصعبة، ويحصل على مكافأة محدودة لها مصارف معينة مسبقاً..هذه لمحات من الحياة المالية للمبتعث. تصنع هذه التجربة الغنية مجموعة من الدروس التي يكتسب بها المبتعث مهارات مهمة تنفعه خلال فترة ابتعاثه وباقي حياته كذلك. تتسم بيئة الابتعاث بمحدودية المصادر والإمكانات المادية مع طموح واضح وقوي، وتاريخ متوقع للعودة. معرفة المبتعث بهذه الخصائص تحسن قدرته على الإدارة المالية. حول هذا الأمر نفسه يتمحور المقلب الكبير الذي تتأذى منه اليوم شرائح عديدة في مجتمعنا. تسببت آثار الطفرات النقدية إضافة إلى تدني الوعي المالي في صنع أجيال لم تتعرف جيداً إلى ما يحيط بها، فهي تعيش في رغد من الأحلام وتربطها قيود من العادات التي لا تتواءم جيداً مع الواقع. يبدأ المبتعث وينهي رحلته الدراسية في مكان مختلف بمكافأة دورية محدودة وثابتة. ومثله مثل غيره، لديه قائمة طويلة من المصروفات التي سرعان ما يعرف منها ما هو ضروري وما هو غير ضروري؛ وهنا الدرس الأول. يملك المبتعث حرية قراراته المالية، فهو يستقل فعلياً بكل ما يملك لحظة نزوله من الطائرة، بينما في بلده وبين مجتمعه تؤثر عليه العديد من عوامل التشويش والإحراج التي ربما ترتب له قائمة أولوياته ومصاريفه حسب ما يرى الآخرون، وليس حسب ما يريد هو.
عندما يقارن المبتعث باقات الاتصالات أو يفاوض شركات التأمين، فهو يتعلم أن بعض البحث والتقصي يجعله يحصل على قيمة أفضل بتكلفة أقل. المقارنة المدروسة بين عدة خيارات لا تعني المفاوضة على السعر فقط، وإنما التعرف على خصائص المعروض وموطن القيمة ومن ثم الحصول عليها، وهذا مكسب كبير إن تحول إلى عادة.
يصبر المبتعث وهو يمارس أفضل تجاربه في إدارة الذات. ولكن لماذا يملك القدرة على الصبر مع محدودية الدخل المالي والضغط الأسري وتحديات الغربة؟ لأنه وبكل بساطة يرى وبكل وضوح غاية رحلته وأهدافها. وهذا مُحفز الصبر الأهم: وضوح الغاية.
من لا يملك الأهداف ولا يفكر فيها لن يجد ما يدفعه للصبر ولو لحظة، وهذا من فطرة الإنسان الانتهازية، حيث يسعى للراحة ولا يبذل الجهد إلا عند اللزوم. والخدعة التي يقع فيها الكثيرون منا هي سوء تقديرهم لحالة "اللزوم" هذه. فهو يظنها قليلة طارئة أو ربما خاصة تظهر في حياة البعض فقط. التفكير الاستراتيجي لازم، ووضع الأهداف لازم، وبذل الجهد لتحقيقها لازم. سيجد نفسه في موقف أفضل من ينجح في تقسيم حياته إلى مراحل تنتهي كل منها بأهداف محددة وغايات واضحة، وخصوصاً من النواحي المالية.
التحدي المالي الذي يواجهه المبتعث في موطن الابتعاث هو تحدي بقاء واستمرارية. فشله في إدارة شؤونه المالية يعني الوقوع في مضائق قانونية لا ترحم وربما العودة بلا نتائج. ناهيك عن مبتعث ومبتعثة يديران متطلبات المنزل ويسدان أفواه أطفالهما، في خضم تحديات الدراسة والغربة وفوق ذلك الانتقاد والتطفل من قبل الآخرين.
يحصل بعض المبتعثين على تحويلات إضافية من أهله مساعدةً له وتعاطفاً معه، وبعضهم يسعى بمجهوده الذاتي مستغلاً شغفه في القيام بأعمال جانبية يزينها بالإبداع الشخصي والمسؤولية الفائقة. تحضر المداخيل الإضافية للمبتعث بوجهين: نعمة أو نقمة، وتقسيمها بهذا الشكل في يد المبتعث نفسه وليس في يد من يحضرها له. هناك من يستثمرها للمستقبل ويعد العدة لذلك جيداً، وهنا من يفعل نقيض ذلك تماماً، وربما يصرفها قبل أن تأتي إليه!
عادات الاستثمار والادخار محبذة ومطلوبة حتى لو كانت لأغرض ترفيهية. من يدخر لقضاء بضعة أيام في منتجعٍ قريب أفضل ممن لا يدخر ولا يسافر؛ وبالتأكيد أفضل بمراحل ممن يقترض ليسافر. أكثر المبتعثين حصافة من يقدر على تحويل بعض الدولارات أو الجنيهات دورياً لحسابه السعودي ــــ أو ربما في بلد الابتعاث ــــ ويدخرها استثماراً أو توفيراً.
تكثر الدروس المالية في مدرسة المبتعث، وأهم ما يميزها الاستقلالية والتخطيط والانضباطية وفهم شروط الرحلة. وهذه الرحلة ليست حصراً على مبتعثي الخارج فقط، وإنما لدارسي الداخل من الشباب الطموح كذلك فرصة ضبط مداخيلهم ومصاريفهم لغرض التعلم والتطوير وكسب المهارات. كل ريال يأتي ويذهب يحمل درسه معه، وأرخص الريالات تلك التي لا نتعلم منها شيئا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي