نظام الحوافز.. منطلق تطوير الخدمة المدنية
إن التحدي الكبير الذي يواجه جميع الحكومات هو رفع مستوى إنتاجية الموظف العام. ويأتي التحدي من أن طبيعة العمل الحكومي تفتقر للبواعث Incentives كالتي يتمتع بها القطاع الخاص. ذلك أن القطاع العام يفتقد بواعث الإنتاجية المتمثلة في المنافسة والسعر والربحية. فالجهاز الحكومي يتفرد بتقديم الخدمة العامة اعتماداً على السلطة العامة. وهي سلطة احتكارية توجيهية بطبيعتها وفي الوقت ذاته مسؤولة عن تقديم الخدمة لجميع المواطنين بالتساوي دون الأخذ في عين الاعتبار التباين في الأذواق والتفضيلات والاحتياجات. هذا الوضع يؤدي إلى أن يكون هناك نوع من الإجبار للمواطنين على قبول الخدمة، ليس فقط لأن ليس لهم خيار آخر، ولكن في حال كان القرار متعلقا على سبيل المثال بالسلامة أو الصحة العامة، أي عندما يكون النفع أو الضرر متعديا للغير، فإنه يتم إلزامهم بالاشتراطات العامة. إن عدم وجود منافس للجهاز الحكومي يعني غياب المقارنة في الأداء، وبالتالي يكون من الصعب معرفة المستوى الأمثل للأداء. وهذا يقود بطبيعة الحال إلى انكفاء الجهاز الحكومي على ذاته والانغلاق عن المجتمع بحيث يصبح القرار باتجاه واحد من الجهاز الحكومي للمواطن دون التدقيق في جودة ونوعية وكمية الخدمة المقدمة، بما يتوافق مع توقعات ومتطلبات المواطنين. وفي ظل غياب الدور الفاعل للمجالس النيابية.. تتولى البيروقراطيات العامة صناعة القرار دون محاسبة مجتمعية على أدائها والتحقق من مدى تأثير الخدمة إيجابياً على معيشة المواطن بشكل خاص والتنمية الوطنية بشكل عام. هذا الوضع يجعل الأجهزة الحكومية تركز على الإجراءات الروتينية الورقية الداخلية والتأكد من أنها تنفذ من الناحية الشكلية بغض النظر عن تحقيق مقاصدها التي تتمثل في تلبية احتياجات المواطنين ومراعاة ظروفهم. إن هذه الضبابية تخلق نوعا من التراخي واللامبالاة لدى الموظف العام، ولا سيما أنه لا يوجد في كثير من الأحوال مؤشرات للأداء ولا تقنين للعمل ولا وصف وظيفي واضح. وبسبب هذا الانفلات الإداري وغياب قياس الأداء المؤسسي وعدم محاسبة المسؤولين في الأجهزة الحكومية مهنياً وإدارياً تتكون ثقافة تنظيمية مبنية على تقديم الخدمة فقط بغض النظر عن جودتها وتوقيتها، ويكون شعارها "احمد ربك!"، وكأنّ الخدمة أمر طارئ يتفضل به الموظف على المواطن! هذه العلاقة المقلوبة بين المواطن والجهاز الحكومي تجعل المواطن في موقف المستجدي للخدمة بدلاً من أن يكون في موقف السيد كما أراد له نظام الخدمة المدنية، فالموظف بنص النظام خادم للعموم.
أما عدم وجود سعر تنافسي للخدمات والسلع العامة فهذا يؤدي إلى عدم ضبط مستوى الإنتاج والتحقق من حجم الطلب على الخدمات العامة. وهكذا نجد أن الخدمة المقدمة في كثير من الأحيان لا تتناسب مع متطلبات واحتياجات المواطنين، فإما أن تكون أكثر مما هو مطلوب أو أقل من ذلك. كما أن غياب الأسعار التنافسية يؤدي إلى المبالغة في تقدير تكاليف الخدمة حد الانتفاخ! صحيح أن اللجوء إلى التعاقد مع القطاع الخاص قد عالج جزءا من المشكلة، ولكن تبقى هناك بعض الخدمات، التي يتطلب إنتاجها من قبل الجهاز الحكومي. كما أن عدم وجود أسعار كمؤشرات توضح أهمية ومقدار الخدمة العامة يؤدي إلى تضخم وظيفي وبيروقراطي في أعداد الموظفين دون وجود خطة للموارد البشرية. وإذا لم يكن هناك ربط بين المدخلات والمخرجات لا يمكن الحكم على عملية التوظيف من عدمه بمعيار الكفاءة. ومع أن للعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية تأثير كبير في بعض الأحيان على عملية التوظيف في القطاع العام، إلا أن ذلك لا يفترض أن يكون معيقاً لوضع استراتيجية تحقق الاستفادة القصوى من الموارد البشرية. إن بقاء الحال متروكاً دون استراتيجية واضحة للموارد البشرية تطبق بحزم وصرامة، لن يكون هناك التزام بالوصف الوظيفي، ولا وجود لمسار وظيفي يخطط مستقبل الموظف المهني. وهذا سيقود للإحباط وتضييق دائرة اهتمام الموظف وانخفاض دافعيته للعمل، ومن ثم سيبحث عن المكانة والاحترام والتقدير من خلال التسلط على المواطنين والتعامل معهم بغلظة وتعال، وهذا ما حذر منه علماء التنظيم خصوصاً الذين تطرقوا للسلوك البيروقراطي وأبرزهم روبرت ميرتون.
إن الباعث الأساس في العملية الإنتاجية والمحرك ومؤشر النجاح وبوصلة اتخاذ القرار في القطاع الخاص هو الربح. والعامل الرئيس وراء الربحية هو إنتاجية العاملين الذين يسعون لتحقيق أداء متميز للحصول على التقدير بجميع أنواعه. فالكفاءة هي المعيار في القطاع الخاص وليس المحسوبية والمجاملات والعلاقات الشخصية، لأنه ببساطة كل ريال ينفق في القطاع الخاص يجب أن يعود بأضعافه من الريالات، ولذا تم الربط بين أداء الموظف وأجره بما في ذلك الحوافز الأخرى. ليس ذاك وحسب ولكن مطلوب من الموظف أن يكون عضواً فاعلاً في فريق العمل وأن يسهم في تطوير سمعة الشركة بجودة الخدمة وحسن التعامل والبحث عن رضا العميل بأي طريقة. وعامل الربحية لا ينطبق على القطاع الحكومي، فكيف السبيل لمعرفة أن الأداء متميز أو أنه دون ذلك؟ إنه حقاً أمر صعب وتحدٍ كبير يواجه مؤسسات القطاع العام، إذ إنها تتعامل مع جميع شرائح المجتمع، ما يجعل من الصعب عليها تحقيق رضا البعض دون إسخاط الآخرين. إن غياب عامل الربحية في القطاع العام يؤدي إلى التركيز على الكفاءة الداخلية كمعيار لقياس الأداء. وهذا الوضع يجعل الموظف العام يقدم الحد الأدنى المطلوب منه، ومتى استولى هذا التفكير على الموظفين فلا بد أن يتراجع أداؤهم مع مرور الوقت حتى يصبح ثقافة تنظيمية لا يستنكف منها الموظف ويقبلها المواطن على مضض كأمر واقع.
إذاً بيئة العمل الحكومي بيئة غير محفزة بطبيعتها وتركت دون تدخل جذري يعترف بوجودها ويعمل على إحداث تغيرات جوهرية وجذرية في نظام التوظيف العام. فنظام التوظيف مركزي وبيروقراطي لا يمنح الرؤساء المباشرين في الأجهزة الحكومية الصلاحيات اللازمة لاستقطاب أفراد أكفاء وتطويرهم وتحفيزهم. ومن هنا لا بد من إعادة النظر في نظام الخدمة المدنية، حيث ينطلق من قيم الإنتاجية التي تشمل التميز والإبداع والالتزام بالوقت والجودة وتحقيق رضا العميل. وهذا لا يتأتى إلا من خلال تطوير آلية واضحة لتقويم الأداء وربطها بالترقية والحوافز. لقد حان الوقت لتطبيق مبدأ البقاء للأصلح والأجدر ولا يمكن الاستمرار في المساواة بين الموظف المتميز والموظف المتقاعس. إن ما علينا فعله هو تحفيز الموظفين لعمل الأفضل، وهذا يتطلب قيادات إدارية واعية وخلاقة لديها خطط وأفكار جديدة تحقق مستوى أعلى من الأداء. ومثل هؤلاء القادة الإداريين المبدعين في الإدارة العليا يجب تمييزهم بكادر وظيفي خاص يختلف عن قيادات الإدارات المتوسطة بمعايير خاصة للاستقطاب والتطوير والتحفيز تتناسب مع أدوارهم ومسؤولياتهم. القيادات الإدارية العليا هم عناصر التغيير ولا يمكن بأي حال من الأحوال تطوير بيئة العمل الحكومي دون تطوير نظام وظيفي خاص بهم. وخلاصة القول أن هناك حاجة ماسة لنظام شامل للحوافز في القطاع العام بجميع مستوياته الإدارية حتى تبعث الهمة وروح المسؤولية في الموظفين الحكوميين وتجعلهم يتفانون في خدمة المواطن والمساهمة في التنمية الوطنية.