تطوير الأداء الحكومي .. الاقتراب من العمل المؤسسي
القرار الحكومي قرار عام وشامل يؤثر في شريحة كبيرة من الناس، ويمتد أثره على مدى زمني طويل. هذا التأثير لا يقع فقط على الأفراد، لكنه مرتبط بتحقيق المنفعة الجماعية والمصالح الوطنية العليا، وأهمها الاستقرار واستتباب الأمن واستدامة التنمية الاقتصادية. وإذا كان القرار يعني الاختيار من بين البدائل المتاحة سيكون من المهم الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف يمكن التوصل إلى تلك البدائل؟ وما معيار أولويتها، ولماذا تكتسب بعض القضايا والموضوعات أهمية بالغة وتدخل ضمن أجندة العمل الحكومي والبعض الآخر يكون خارج دائرة الاهتمام؟ هذا يتطلب نظرة تحليلية لعملية صنع القرارات العامة وفهم الظروف والعوامل والضغوط التي تؤثر في صياغتها. هل القرارات العامة تستند إلى معايير الكفاءة الاقتصادية؟ نعم، لكن ليس بشكل كامل! فالجوانب الاجتماعية والسياسية تلعب دوراً مهماً في تشكيل القرار العام. والمقصود بالكفاءة هنا تقديم الخدمة المطلوبة للمجتمع كماً ونوعاً وجودةً، إلا أنه في كثير من الأحيان تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى التنازل عن معيار الكفاءة الاقتصادية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. ليس ذاك فحسب، لكن قد تحقق الحكومة الكفاءة على مستوى المنفعة الكلية للمجتمع بتقديم سلع وخدمات يحتاج إليها المجتمع، لكن ليس بالضرورة على المستوى الفردي. بمعنى قد تكون الخدمة المقدمة مطلوبة اجتماعياً، لكن المنفعة المتحققة للأفراد تكون متفاوتة فيما بينهم بحكم اختلاف تفضيلاتهم واحتياجاتهم. وهنا لا بد من التذكير بأن القرار العام يطبق على الجميع عند صدوره بالتساوي بغض النظر عن التباين في الأذواق والتفضيلات بين الأفراد، وهذا ما يجعله أقل كفاءة على الأقل على المستوى الفردي. فالقرار العام يعجز عن تلبية الاحتياجات المتنوعة للأفراد مقارنة بالقطاع الخاص، حيث يكون هناك توافق بين ما يرغبه الفرد وما يتحصل عليه من خدمة. لا تقف إشكالية القرار العام عند هذا الحد، بل إن المشروعات الحكومية ذات تكلفة عالية، ومتى ما اتخذ القرار بشأنها وتم تنفيذها لا يمكن التراجع عنها، لذا عندما يقع خطأ في اختيار أو تنفيذ المشروع فإن لذلك تداعيات اقتصادية واجتماعية وخيمة ومكلفة. هذه التكلفة لا تتعلق فقط بالاستخدام غير الكفء للموارد، لكن الأهم التنمية غير المستدامة وتأثيراتها السلبية في البيئة ولوقت طويل، خاصة فيما يتعلق بالاستخدام الجائر للموارد الطبيعية الأساسية مثل الماء والموارد الاقتصادية مثل النفط والمعادن.
وهكذا نجد أن القرار الحكومي بالغ الأهمية في إدارة المجتمع وتحقيق الرفاهية الاجتماعية وضمان استقراره وازدهاره. هذه الأهمية تجعل من الضروري إعادة النظر في إجراءات القرارات العامة وكيفية التوصل إليها. وهنا لا بد من التمييز بين صنع القرار واتخاذ القرار. فصنع القرار هو إنشاؤه أصلاً، وهو أمر يتعلق بالسلطة التشريعية، التي تمثل المرجعية القانونية للقرار. أما اتخاذ القرار فيتعلق بأسلوب تنفيذ التشريعات، وهي في مجملها فنية تقع ضمن اختصاصات السلطة التنفيذية. ومن نافلة القول إن الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية أمر ضروري ويفيد في تحقيق كفاءة القرار الحكومي من جهتين الأولى: عدم تركز السلطتين في جهة واحدة؛ لأن ذلك يعد سلطة مطلقة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. الجانب الآخر أن السلطة التشريعية معنية باستشفاف الرأي العام والحوار والنقاش والتفاوض حول الموضوعات والقضايا الخلافية، التي تتباين فيها وجهات النظر ومن ثم البحث عن صيغة توافقية تحقق الحد الأدنى من الرضا لدى الأطراف المتداخلة في العملية السياسية، أما السلطة التنفيذية فهي معنية بتنفيذ القرارات التشريعية بأسلوب فني بحت، وهذا يقتضي بالضرورة أن يكون من خلال تنظيمات بيروقراطية ذات نمط ثابت يضمن التساوي في تقديم الخدمة. لذا لا يفترض أن يقتصر الحديث عن الكفاءة على جانب التنفيذ، لكن - وهو الأهم – أن يشمل جانب التشريع، إذ ليس المهم سن تشريعات لتقديم خدمات للمواطنين وحسب، لكن هل هذه الخدمات مطلوبة اجتماعياً وتحقق المصالح العليا للوطن؟ بمعنى آخر ليس المهم فقط صعود السلم، لكن يجب وضعه على الحائط الصحيح! فموضوع تطوير الأداء الحكومي لا ينبغي اختزاله في تحسين الإجراءات الداخلية للأجهزة الحكومية، لكن من المهم النظر بنظرة فاحصة وموضوعية وتحليلية لنظام الإدارة الحكومية بشكل شامل ومتعمق. على سبيل المثال يتصف نظام الإدارة العامة السعودي بالمركزية والاعتماد على التنظيمات البيروقراطية في صنع القرارات العامة، وهذا له تداعيات سلبية تتمثل في توسيع الهوة بين صانع القرار العام والمواطن، وتؤدي إلى سوء استخدام السلطة وتقليل جهود التنمية المحلية. إذ إن غياب دور المجالس التشريعية النيابية في توجيه وتقييم ومحاسبة البيروقراطيات العامة يؤدي إلى اختلال في عملية صنع القرار العام، فهناك انفلات بيروقراطي - إن صح التعبير - حيث تسيطر التنظيمات البيروقراطية على عملية صنع القرار بشقيها التشريعي والتنفيذي، ما يفقد القرار العام خاصية التعرف على الرأي العام وحساسية الاستجابة لمتطلبات المواطنين. هذا إضافة إلى ضعف صلاحيات وأدوار المجالس النيابية، ما يقلل من دورها الرقابي الذي هو أساس في توجيه ومتابعة وتطوير الأداء الحكومي. إن تركز عملية صنع القرار في الأجهزة التنفيذية دون رقابة مجتمعية يؤدي إلى فتح المجال واسعاً للاجتهادات الشخصية في تأدية العمل الحكومي. حتى على افتراض حسن النيات، فإن تدخل الأهواء الشخصية في عملية صنع القرار يربك العمل الحكومي ويقلل من كفاءته. لذا هناك ضرورة ملحة لتطوير العمل الحكومي مؤسسياً ليس على مستوى تطوير الإجراءات والعمليات داخل الأجهزة الحكومية إنما إعادة هيكلة الإدارة العامة بصورة جذرية بما يحقق كفاءة العمل وفاعليته. لقد حان الوقت لتحويل الكثير من القيم السياسية السعودية إلى عمل مؤسسي موثق، وصياغتها في إطار قانوني يطور عملية صنع القرار ويجعل إجراءاتها أكثر وضوحاً وكفاءة وفاعلية. ومن بين أهم تلك القيم سياسة الباب المفتوح بين المسؤول والمواطن، التي يمكن تطبيقها من خلال تطوير وتفعيل المجالس النيابية (الشورى، المناطق، المحلية، والبلدية) ومنحها سلطات أكبر لتقوم بدور الموجه والمراقب والمحاسب لضمان أن تكون تلك العلاقة بين المواطن والجهاز الحكومي داخل إطار مؤسسي لا يخضع للهوى والرأي الشخصي.