إذا هبت رياحك فاغتنمها!
يأتي مؤتمر قمة العرب في بيت العرب ليجدد في الأذهان حالة الإحباط الملازمة لكثير من الناس في عالمنا العربي، وهم يرون تدهور أحوالهم، وعجز حكوماتهم عن النهوض بمجتمعاتهم، في حين تقفز الأمم من حولهم في خطوات تزيد من هوة الفارق بيننا وبينهم. والحق أن العرب لم يبلغوا مستوى من الانحطاط والتشرذم المصحوب بالذل والهوان في تاريخهم كما بلغوه في زمنهم الراهن! إن من يتأمل خريطة العالم، يرى كيف نهضت خلال الـ 50 سنة الماضية شعوب عديدة في أقصى شرق الدنيا وغربها، وفي شمالها وبعض جنوبها، بينما ظلت أمتنا تراوح مكانها في أدنى مراتب الدنيا، لا ينافسنا في عشق القاع سوى ربما شعوب القارة الإفريقية !! ولم يكن هذا حال أمتنا، فتاريخنا كان مجيدا وعزنا كان تليدا. كان العرب أمة ذات مكانة وريادة، فغدوا جمعا هشا خالي القوة مسلوب الإرادة!
لا ضير إن تعرضت أمة ما، تحت ظرف ما، وفي حين ما للتراجع والانتكاس. فالأمم تنهض وتكبو.. تعلو وتدنو، فهذا قانون الحياة وناموسها، لكنها لا تبقى على حالها ولا ترضى الهوان لمآلها. تعرضت في العصر القريب اليابان وألمانيا لهزيمة نكراء في الحرب العالمية الثانية، لكنها اتخذت من هزيمتها سببا لانبعاثها. كما تعرضت كثير من شعوب الشرق، بدءا من الهند ومرورا بالصين حتى أقصاها في ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا، لذل الاستعمار. لكن هذه الشعوب نجحت في بحر عقود قليلة، من خلال بث روح العمل والإقدام في أبنائها، وتحويل نكباتها إلي سلسلة من قصص النجاح المبهر! أثبتت شعوب الشرق أنها أمم حية لم ترض بتخلفها عن ركب الحضارة، وإنما آمنت أنها تستطيع تغييره باقتباس مناهج الناجحين واتباع مسالك المتميزين الذين تحلوا بالمثابرة الصادقة والرؤى الثاقبة والعزيمة الماضية.
وبينما اتخذت الأمم الحية من النكبات والانكسارات أسبابا قوية لبث روح التحدي ومواجهة الملمات، ظلت أمتنا راكدة راضية بواقعها المهين لفترة طويلة من الزمن دون جهد مؤثر للخروج من هذه الحظيرة، بشكل مثير حقا للدهشة والحيرة. إذ يصعب على الأذهان تصور أسباب تخلفنا عن مضمار التقدم على الرغم من توافر كل مقومات النهضة والانطلاق، واستحواذنا على مقتضيات النهضة والانعتاق، ومرورنا بشتى صور التدبر والاعتبار الداعية لكسر دوامة الانتظار!
كشف تلاحق الأحداث الكارثيـّة في منطقتنا في العقود الأخيرة مدى هواننا على أنفسنا قبل هواننا على غيرنا. هُنـّا على غيرنا إلى الحد الذي أضحى أعداؤنا يحاربوننا بأموالنا وبرجالنا!
إن المرء ليصاب بالذهول لمدى الهوان والتشرذم لأمم لا تستحق بالنظر إلى ما لها من قيم وتاريخ ورسالة أن تنزلق إلى هذا الدرك من الضعف والانحطاط. ماذا ينقصنا عن غيرنا ؟ هل عدمنا العقول المدبرة أم افتقدنا الكفاءات المفكرة؟ هل نشكو نقصا في مواردنا أو قلة مال في مخازننا؟ حتما ليست هذه علتنا. إننا نحوز قدرا من الثروات المادية والكفاءات البشرية ولدينا من الأسباب الموضوعية والروابط التاريخية، ما يمكن أن يجعلنا أمة متعددة المواهب شديدة البأس مصونة الجانب. إن ما نواجهه من نكبات وأزمات تتوالى علينا، كان يجب أن يكون كافيا ليدفعنا دفعا حثيثا لعلاج بلائنا الحاضر وإعادة مجدنا الغابر وإيقاظ المتحجر فينا من الضمائر ومقارعة أندادنا من بقية العشائر.
ما خالجني شك في يوم أننا مؤهلون لبناء مجد جديد، فكل مقومات الانطلاق متاحة لنا، حالنا واضح وطريق عزنا معروف الملامح. من البين أن شيئا قد اختل في طريقنا عبر التاريخ على نحو خطير، ولا مندوحة لنا من الاعتراف به وتغييره. إن أمتنا بحاجة إلى نظام جديد يعيد إحياءها من جديد ويمضي بها نحو مستقبل تليد.
لن تقوم للعرب قائمة دون أن يأخذوا ويطبقوا ما فعله غيرهم من الناجحين الناهضين، وبما نصحهم به مفكروهم وعلماؤهم في أكثر من محفل. والعجيب أن هذا الطريق متوافق مع شريعتهم، ولا يتعارض المفيد منه مع شيء مما اتفق عليه سلفهم الصالح.
إن طريق الإصلاح يبدأ أولا من الاقتناع بأهمية قيام مؤسسات المجتمع المدني التي تضمن للناس حرياتهم وفق ضوابط الشريعة، وتحفظ حقوقهم الإنسانية وتمكنهم من التعبير عن آرائهم واختيار من يمثلهم ويحمل همهم ويكون قادرا على تحويل مطالبهم وأحلامهم في شكل برامج منطقية وواقعية قابلة للتطبيق.
ويمضي ثانيا في طريق سيادة القانون، علينا أن نكف عن الضحك على أنفسنا وممارسة التناقض في حياتنا وسلوكنا. فالقوانين يجب أن تعلو ولا يعلى عليها. يجب أن يشعر ويعرف ويتأكد الجميع أنهم خاضعون للقانون، وإلا حل الإحباط بينهم وضاعت جهودهم وتبددت مواردهم وضرب الفساد أطنابه في حياتهم وتقوضت الثقة بينهم، و انتشر بين الناس القلق المدمر فلا يعرفون مآل نشاطهم وجهودهم.
وعلينا ثالثا إعادة تشكيل نظامنا التعليمي والثقافي وأساليب أبحاثنا العلمية بحيث تتوجه مباشرة صوب العلوم التطبيقية المفيدة والملائمة لمشاكلنا وقضايانا المعاصرة. يجب أن نضمن التعليم للجميع حتى التعليم الثانوي، ثم نتبنى برامج تعليمية تطبيقية قصيرة الأمد (سنة إلى سنتين) تؤهل الناشئة لممارسة عمل محدد بمهارة عالية. أما ما فوق هذا التعليم فينبغي أن يكون انتقائيا ونوعيا وأن يتحرر من البيروقراطية الحكومية غير الضرورية. وفي كل تنظيم علينا أن نراعي ضوابط الكفاءة والعدالة ونتبنى دوما نظاما للحوافز في حياتنا حتى يرى الجميع ثمرات جهودهم.
إن طريق الإصلاح مهما بدا طويلا فهو يبدأ بخطوة صحيحة واحدة. لا ينبغي أن يكون الإحباط الشديد الذي يتملك الناس في عالمنا العربي مانعا من أن نعي أن سبيل النهوض ليس صعبا ولا مستحيلا. كل عربي أبي يتمنى أن يخرج قادتهم ببرنامج عمل حقيقي وواقعي يمنحهم الأمل بمستقبل أفضل لهم ولأبنائهم. إن التغيير قادم فهذه سنة الحياة، وما لا تغيره الأنظمة بإرادتها، ستغيره الظروف بفعل تبدل الحال وتطور الزمان. فلنستوعب الحقائق ونردد مع الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن الخافقات لها سكون!!