في التعليم العالي .. هل هدفنا الكم أم النوعية؟

في السبعينيات الميلادية، انطلقت جحافل المبتعثين من شباب الوطن منتشرة في أصقاع الأرض، كانت المهمة المطلوبة من وزارة التعليم العالي مساندة الجامعات المحلية في تخريج أكبر عدد ممكن من أبناء الوطن ليتولى قيادة الدولة الشابّة الحديثة، لتقف على قدميها، وتقارع دول العالم في صناعة نهضة دولة وبناء رفاهية شعب.
نجحت تلك الحملة في إيجاد عدد كبير من المؤهلين لكثير من المناصب القيادية آنذاك، ثم مرت مرحلة ركود في الابتعاث تزامنت مع عجوزات الموازنة آنذاك، كان التركيز فيها على التخصصات الأعلى لما بعد الجامعة، وللعديد من التخصصات الدقيقة أو لأساتذة الجامعات، ثم جاءت مرحلة ما بعد 11 سبتمبر، حيث توقف الابتعاث الخارجي تقريباً بسبب القيود المتزايدة من الكثير من دول العالم، لإشكاليات غير خافية على الجميع.
وفي عهد الملك عبد الله حدثت ثورة في التعليم العالي على جميع الأصعدة، فقد تم دمج جامعات واستقلال الفروع، وفصلت الكليات عن وزارة التربية والتعليم، وتأسست جامعات جديدة، وتم بناء العديد من الجامعات في المدن الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى جامعة الملك عبد الله في ثول وجامعة نورة في الرياض، وبدأ الترخيص بالجامعات الأهلية، وتم تدشين برنامج الملك عبد الله للابتعاث بحجم لم يسبق له مثيل.
الثورة التعليمية التي تمت خلال السنوات العشر الماضية كانت الحاجة إليها ماسة، ولا تُنكر أهميتها للوطن، لكنها ركزت وبقوة على جانب واحد من المعادلة وهو زيادة عدد خريجي الجامعات، في حين أغفلت أو تغافلت عن جانبين آخرين لا يقلان أهمية، وهما: اختيار التخصصات المطلوبة، والجودة التعليمية.
أكثر التخصصات تركيزاً لطلابنا الجدد في الجامعات هي إدارة الأعمال والمالية والتسويق، بينما الحاجة والنقص في تخصصات أخرى مختلفة، ويتضح ذلك من استعراض النقص في سوق العمل، حيث يتركز النقص في التخصصات الأصعب مثل التخصصات الصحية والصناعية والعلمية.
أما الجودة التعليمية فلا شك أن هناك العديد من المتميزين، لكنهم ليس الكل بل ليسوا الأكثر! وتتضح الصورة أكثر في مقابلات التوظيف لبعض شبابنا من خريجي بعض الجامعات خارج المملكة، ففوجئ بمستوى علمي متدن وشخصية مهزوزة، والأدهى والأطم عندما تجد متخرجاً في جامعة أمريكية لا يجيد اللغة الإنجليزية! عندها نعرف أن بعض الجامعات حتى المعترف بها في بعض الدول؛ شغلها "سلق بيض"، المشكلة الأخرى هي جدية المبتعثين، وهذا ما أكده الملحق التعليمي السعودي في أمريكا لما قال: "إننا لو طبقنا الأنظمة بحذافيرها- على المبتعثين- فإن أكثر من نصف الطلاب والطالبات سيعودون، وسيتم إنهاء المنح الدراسية الممنوحة لهم"، وسيكون الأثر كبيراً إذا عرفنا أن عدد المبتعثين والمبتعثات في أمريكا فقط يبلغ 111 ألف مبتعث، والملحق التعليمي يتحدث باعتزاز عن تخرج 1800 مبتعث سعودي بمعدلات متميزة! وهو معدل ضعيف جداً مقارنة بعدد المبتعثين السعوديين ككل.
المبتعث السعودي في الخارج يكلف في أكثر الأحوال عشرة أضعاف مثيله الدارس في جامعات المملكة، ولا بأس بهذا إذا كانت المخرجات تستحق العناء، لكن– مع الأسف- يظهر أنها ليست كذلك؛ "فالبعرة تدل على البعير والأثر تدل على المسير"!
التوصية التي قدمتها الملحقية التعليمية السعودية في أمريكا توصية تستحق الإشادة، وهي تركز على إعطاء مكافآت إضافية للطلاب السعوديين في أفضل 25 جامعة في أمريكا، وهي مبادرة نوعية أتمنى أن تتم الموافقة عليها، بل تزيد لتضم المبتعثين الدارسين في أفضل 100 جامعة في العالم.
الأهم من المكافأة أن يتم العمل بجدية لتأهيل قبول الطلاب السعوديين في الجامعات الأفضل حول العالم، فالقبول في هذه الجامعات ليس مثل القبول في الجامعات الأخرى، وهذه الجامعات هي الأفضل؛ لأن طلابها هم الأميز، وأحد أهم أسباب تميز الطلاب هو التمحيص الدقيق في قبول طلابها بعد مرورهم بقائمة طويلة من المتطلبات والاختبارات والمقابلات الشخصية. ومع الأسف فإن الطلاب السعوديين من أقل الجنسيات في هذه الجامعات الأفضل والأبرز في العالم! لذلك فإني أقترح على وزارة التعليم العالي أن تختار سنوياً 500 متخرج جامعي من المتفوقين من داخل المملكة وخارجها، وتعد لهم برنامجاً يبدأ مع هؤلاء الطلاب خلال دراستهم الجامعية يعنى ببناء الشخصية والمهارات، ويهيئهم لاجتياز الاختبارات والمقابلات حتى يحظوا بفرصة أعلى للقبول من أقرانهم من الدول الأخرى.
"الزبدة" .. أننا لا نريد أن يكون شبابنا من المبتعثين "غثاء كغثاء السيل" جلجلتهم عالية ونفعهم قليل، بل نريد شباباً يتقلدون المناصب متسلحين بالعلم، يستفيدون من بعثتهم في الإفادة من التجربة والخبرة وبناء الشخصية والتواصل مع زملائهم من جميع دول العالم، إذا لم يتحقق ذلك أو أكثره، فإن دراسة أبنائنا في جامعاتهم المحلية أولى، فهي أفضل مستوى من بعض جامعات "نص كم" خارج المملكة، وأفضل محضناً من البيئة المفتوحة البعيدة عن الرعاية والإرشاد، كما أن فيها توفيراً لمئات الآلاف من الريالات التي تصرف على بعض المبتعثين التي يمكن توفير أكثرها بالابتعاث الداخلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي