الأقلية والأكثرية.. والتضحية بالتقدم

لقد أسفرت السنوات الماضية، منذ تداعيات الصحوة حتى تفجر أحداث الربيع العربي، عن أن مفهوم التقدم (التنمية) كمنظور علمي موضوعي ينتمي للمستقبل كان مشوشا، ولم يكن هو الهدف الأساس والغاية بين الأقلية والأكثرية.
إن مصطلح "الأقلية" يوحي بنوع من التفاوت في الكرامة الإنسانية، أو طبقية شعورية تعكس إحساسا بالمنة من قبل الأكثرية ضد الأقلية.. عرقية كانت أو مذهبية، وقد أثبتت الأحداث أن قدرا من هذا الشعور كان مضمرا، سرعان ما تفجر على نحو كارثي بالإرهاب وتطاحن الجماعات الإسلامية، بل والمسيحية، وتساقط الأقنعة القومية واليسارية على حد سواء، ما يدعو حقا للتساؤل: لماذا حدث هذا؟
كان الشيعة والسنة العرب يعيشون جوا من المجاملة الاجتماعية، وكان المسيحيون العرب يحسون بنوع من التفوق الثقافي والحضاري في هذا المحيط الإسلامي. وكان الشيعة يحسون بنوع من المظلومية تعاطف معها بعض السنة ممن يعتبرون أنفسهم وطنيين متنورين، قبل أن تشق مفاهيم الليبرالية وحقوق الإنسان طريقها، وكان المسلمون، سنة وشيعة، يجدون في أنفسهم قدرا من الامتعاض من إحساس المسيحيين بالتميز، فيما يحس المسيحيون بشيء من التمييز السلبي تجاههم والاحتراس في المحيط العملي، خصوصا الرسمي منه.
دفعت الأحداث بالمسكوت عنه أو المفسر مذهبيا وعرقيا إلى السطح.. فعبرت المذهبية عن نفسها بالصراعات الدموية، بينما تفاوتت الحالة العرقية في تموضعها بين الانحياز للعرق أو الاندماج في المذهب.
إن من الواضح أن ذلك ناجم عن خلل في نظرة الهويات الأقلية والأكثرية لنفسها، فعلى حين تميل الأكثرية إلى تقزيم الأقلية في الفضاء الاجتماعي، تميل الأقلية إلى تضخيم أهميتها.. وهذا التنابز على الأهمية هو ما أدى إلى الهشاشة في الهويات الوطنية، وجعل المواطنين أشبه بمقيمين في بلدانهم من منتمين لها.
لقد تم تذويب الهوية (الوطنية) بالهويات الفرعية، واختزل كل طرف الهوية الوطنية بهويته، وعلى الرغم من أن الهويات كانت تبدو متصالحة على السطح، لكن لم يتم في العمق حل معضلة التباين فيما بينها بصراحة الحقوق والواجبات المتكافئة، لكبح الهرولة إلى ماض غلبت عليه الميثولوجيا أكثر من الحقيقة، ووظفه الخارج أكثر مما صده الداخل.
القوميون واليساريون تماهوا في مواقفهم، مع العصبيات المذهبية إلى الحد الذي يمكن معه القول إن وعيهم لمسألة التقدم كان شعاريا أكثر من كونه جوهريا قائما على بديهية التقدم كمعيار، وما إذا كان هذا الموقف أو ذاك يمثل التقدم أم يتنافى معه.
لقد رأينا بعض النخب العربية ترى في جماعة الإخوان المسلمين مشروع تقدم وتنحاز إليه لمجرد أن شعاراتهم ترجم الغرب وتحارب التغريب لفظا وتعزف على وتر العدالة. ورأينا نخبا أخرى ترى في ولاية الفقيه الشيء نفسه، وفيهم - في الحالين - من قضى سنوات في الغرب ودرس في أرقى جامعاته. فقد استبدلوا الشعار الأيديولوجي القومي أو اليساري بمقارعة الإمبريالية والرجعية بشعار يقول الكلمات نفسها، لكنه يحيل مرجعيته إلى حادثة تاريخية أو تصور لنسق تاريخي لا سبيل لاستدراجه ليصبح هو الحاضر والمستقبل.
إنه بدلا من أن تجتذب النخب العربية الهويات الفرعية وتعمل على تصعيدها إلى أفق الهوية الوطنية عملت العكس تماما متهافتة على تلك، لأن التقدم كان شعارا ولم يكن معيارا لجوهر، فتمت التضحية به على مذبح المغالطة بين التكتيك والاستراتيجية .. وهو ما لم يحدث في الغرب، فالانحياز الكلي للتقدم ظل هو مما لا جدال فيه مهما كان للأحزاب والتجمعات والمذهبيات والأقليات من مواقف ورؤى، إذ الأهم مدى الاندفاعة للمستقبل بناء على العلم والعقل بشكل حاسم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي