رجل خيّب ظن العالم
لقد زخرف الرئيس أوباما خطابه الاستهلالي بعد فوزه بالانتخابات، بنشيد إنشاد عن السلام وحقوق الإنسان فأغرورقت لذلك عيون القس جسي جاكسون بالدموع وعيون آخرين، ممن رأوا فيه شخصية كارزمية، وانتصارا للمساواة كما علق عليه العالم آمالا عراضا حتى أن لجنة جائزة نوبل منحته جائزة نوبل للسلام وهو بعد لم يفعل شيئا للسلام!
جاء أوباما لمصر وتركيا وبنى أهراماً زاهيا من الكلمات أيضاً عن السلام في خطابيه، فعاظم من شحنات الأمل.. غير أنه تبين مع الأيام أن الرجل مجرد خطيب مفوه مسكون بسلام متخيل فحسب، إذ بدا أن إرادته تقعد به عن تحقيقه، إلى حد التقاعس أمام التحديات التي واجهته على المستويين الداخلي والخارجي، حيث تطابق معنى السلام فيها بمعنى الاستسلام!
لم يكن الانسحاب المرتبك من أفغانستان والعراق انسحابا حصيفا بقدر ما كان إجراء العاجز غير المسؤول عن مقابلة استحقاقات الأمن وترتيبات السلام، فقد ترك البلدين نهبا للعنف والإرهاب ولحكومتين تمثلان سلطة انتداب أكثر من كونهما معنيتين بتحقيق الاستقرار والتنمية.
في المسألة الفلسطينية ناور بالوعود الغامضة من بعيد لذر الرماد في العيون وعلى نحو رخو لا يشير إلى مساع جدية لمفاوضات تحقق سلاما عادلا مشرفا، وليس بوسع أحد أن يذكر لوزيرة خارجيته الباهتة هيلاري كلينتون أنها قامت بجهد ملموس.. وما زال وزير خارجيته الآخر جون كيري يذهب ويعود للمرة العاشرة، وعينه ــــ ربما ــــ على جائزة نوبل للسلام، أكثر من شيء آخر إذ لا تلوح في الأفق مقاربة فعلية للحقوق الفلسطينية، ولو حتى وقف التنامي السرطاني للمستوطنات.
جاءت المأساة السورية لتقدم الامتحان الفاضح في سلام مزعوم فرسب فيه إلى حد العار .. فقد أدار الظهر وسد المسامع عن تسلط القوى الإقليمية والدولية ممثلة بروسيا وإيران وحزب الله وهي تساند الأسد في إدارة طاحونة الموت والدمار بالكيماوي والطائرات التي تمطر براميل متفجرة على رؤوس الشعب السوري وتهدم مدنه وقراه فوق أجسادهم، ولم يبال بانفلات عصابات التطرف والإرهاب وهي تجعل من سورية معتقلات وحشية وسلخانات جزارة بشرية، وأبدى تبلدا أمام معاناة النازحين الفارين من جحيم الأسد إلى جهنم المجهول.
تبخرت كذلك كلماته عن إلهام جماهير الربيع العربي له وأسفرت عن مسحة رقيقة من عسل الألفاظ على كعكة علقم وحنظل سلام أراده استسلاما لاستبداد الإخوان المسلمين الذين لم يأل جهدا في الترافع عنهم مباشرة أو عن طريق ممثلة المفوضية الأوروبية كاثرين آشتون بالتصريحات والزيارات التي تدس أنفها في الشؤون الداخلية لمصر وبالابتزاز بقطع المساعدات التي كانت إصلا حقا مستحقا في اتفاقية دولية.
توجه الرئيس أوباما إلى المحيط الهادئ للخروج من الأزمة الاقتصادية تاركا أوروبا تقلع أشواك أزمتها بيديها، مظهر آخر للهروب من استحقاقات الاستقرار والسلام .. فكثير من المراقبين يرون في هذه الهرولة للمحيط الهادئ كساحة للنزال في صراع القوة إنما يجيء على حساب دور أمريكا ومسؤوليتها في العالم، بل إنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى أن يملأ الآخرون ما تركته أمريكا خلفها من فراغ!
مع ذلك.. لا يبدو أن الرئيس أوباما يعير اهتماماً لهذا التخبط .. سواء في الهروب للمحيط الهادئ أو في تسليم الملف السوري لروسيا أو تهافته في مجاراتها إلى حد رمي طوق النجاة لإيران في مفاوضات النووي بعدما كادت تنهار أو تندفع إلى الحرب كما صرح رفسنجاني.. ولا أظن أن الوضع في سنوات رئاسته سيتغير .. فقد خيب هذا الرجل ظن العالم فيه.. والسجال الحالي داخل الكونجرس وفي العالم حول دور أمريكا، وبالذات المأساة السورية أكبر مؤشر على أن الآخرين لا يتفقون معه ويرون أن على أمريكا أن تصلح ما أفسدته، ليس بالهروب منه وإنما بالعمل عليه.. غير أن ذلك يعني في النهاية الانتظار إلى حين وجود ساكن جديد في البيت الأبيض.