كابوس الدبلوم

شكا صاحب الاستراحة من سوء توزيع الطاقة الكهربائية، حيث تومض كل الإضاءة عندما يعمل جهاز التكييف المركزي. عرضت عليه أن أوصله إلى خبير الكهرباء السريلانكي الذي تعرفت عليه عن طريق أحد محال بيع ''الثريات''. يبيع المحل أغلى أنواع الثريات، وهو ما يجذب ربات البيوت إلى محله الذي يحقق أرباحا كبيرة بسبب سمعته، والدفع من المسكين الذي يتهمه الغرب بتحقير المرأة.
المهم أن مدير المحل قال بلهجته العربية: ''بنجيب لك كهربائي ولا مثله، لكن لا بد نحجزه ويمكن يجي بعد يوم أو يومين''. انتظرت الرجل المشغول جداً، وصلني بعد خمسة أيام. بدأ العمل بشكل احترافي كشفته لي قدرته على إصلاح ما أفسده مقاول الكهرباء العربي الذي لم يتنازل عن عرض الأسعار الذي قدمه، برغم اكتشاف أخطائه في التمديدات التي تجاوزت 20 أصلحها الكهربائي السريلانكي.
تبادلت الحديث مع الكهربائي الفلتة الذي قال إن دخله يصل إلى 50 ألفاً في بعض الأشهر. تأكد لي ذلك عندما حسبت كم يحصل عليه لقاء تركيب الثريات من المحل الذي يحسب كل شيء على الفقير لوجه الله. لكنني في النهاية قلت: ''حلال عليك كل اللي كسبته''. لأن عمل الرجل كان متقناً وعلمياً بشكل لافت. في النهاية أكد لي أن أغلب ما يفعله هو أنشطة مثل التركيبات هذه، وإصلاح ما يفسده المقاولون في بيوت خلق الله. لكن الشرهة ليست عليهم، فهم جاءوا للكسب المادي في الدرجة الأولى، نحن المخطئون حكومة وشعباً عندما نسمح لكل من هبّ ودبّ أن يتعلم الحلاقة في رؤوسنا اليتيمة.
قادني ذلك للتفكير في أبناء هذا الوطن الذين تحصل المؤسسة التي تؤهلهم للعمل على ميزانيات هي من أعلى الميزانيات في العالم. تصرف الدولة على هذه المؤسسة أكثر من خمسة مليارات ريال كل سنة. ولكن لا نرى ما يبرر هذه المبالغ كمخرجات قابلة للعمل واستعادة سوق العمل من أيدي الأجانب. برغم أن اسم المؤسسة تغير، وترجمته أيضاً تغيرت، ومبانيه تغيرت، لكن الكفاءة لم ترتفع كما هو مأمول.
يحرص أصحاب الأعمال على عرض الوظائف على خريجي كليتي الجبيل وينبع الصناعيتين برغم أنهما لا يتبعان المؤسسة العامة للتعليم المهني والتقني. بل إن المعاهد التي تبناها القطاع الخاص مثل معهد البلاستيك ومعهد السيارات تضمن لخريجيها الوظائف في المصانع الوطنية من خلال البرامج المشتركة وجودة المخرجات، حتى برنامج التدريب المهني العسكري يضمن خريجوه فرصاً وظيفية جاذبة بسبب فترة التدريب التي يحصل عليها الخريجون في البرنامج.
سمعت من أكثر من مسؤول أن هدف المؤسسة هو الكم أكثر من الكيف، يبدو أن هذا الأمر حقيقي. فأعداد خريجي الكليات التقنية كبيرة جداً، ولكن الجهات التي توظفهم تشكو من انخفاض مستوى تأهيلهم. هذه الإشكالية تستدعي إعادة النظر في أداء المؤسسة واستراتيجيتها وخططها التدريبية.
قرأت خلال الأيام الماضية عناوين في الصحف المحلية تتحدث عن توفير 11700 وظيفة تدريبية لخريجي الدبلومات الصحية قبل حصولهم على وظائف رسمية في وزارة الصحة. من المؤسف أن يضطر الخريج إلى التدريب لمدة عام كامل بعد إنهاء عامين ونصف من الدراسة، ليعاد تأهيله من جديد للعمل. هذا الحل الذي ابتكرته وزارة الصحة بالتعاون مع الخدمة المدنية، يعتبر بمثابة التأكيد على أن البرامج التي تديرها المؤسسة أو تشرف عليها لا تحقق الحد الأدنى من متطلبات الصحة، وهي قطاع يسيطر على الوظائف التقنية فيه الأجانب. فهل راجعت المؤسسة أسباب الحاجة لإعادة تدريب خريجين يعتبرون جاهزين بعد برنامج تعريفي لا يتجاوز الشهر الواحد.
يذكر تصريح للمتحدث باسم المؤسسة وهو ''دكتور'' أن الخريجين من مختلف معاهد وكليات التعليم الفني عرضت عليهم 15 ألف وظيفة في القطاع الخاص. ورغم أن خريجي دبلومات الكلية التقنية لم يتجاوزوا 20 ألفاً، فهم لم يحصلوا على أكثر من 0.3 وظيفة لكل خريج في سوق يعمل فيها ما لا يقل عن ثلاثة ملايين أجنبي في وظائف مماثلة. هذه الوظائف قد لا تكون جاذبة لأسباب كثيرة، وكثير منها معروضة لأغراض بيروقراطية بحتة. فلماذا لا يريد أصحاب الأعمال توظيف خريجي الكليات التقنية؟
تبقى عقدة التوظيف في الحكومة قائمة بالنسبة للخريجين لأسباب كثيرة منها اللبس الواضح في مسميات الوظائف وما يلائمها من مخرجات الكليات التقنية، إضافة إلى عدم استفادة الجهات الحكومية من الخريجين في أعمال تلائم الشهادات التي حصلوا عليها وبقاء العمل الفني مربوط بالشركات التي تمارس كل الجزئيات الفنية ما عدا تلك المتعلقة بالوظائف العسكرية والتي تضطر إلى التدريب من جديد.
على أن الشكوى عامة، فخريجو دبلومات المحاسبة والإدارة يعانون تجميد تعيينهم على وظائف الخدمة المدنية منذ أكثر من خمس سنوات. الخريجون يعانون، وجهات التوظيف تعاني، والمؤسسة مستمرة في ''التطنيش''، واعتماد برامج غير فاعلة، والجهات الرقابية لا حس ولا خبر، والخاسر الأكبر هو الوطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي