نقاط الاحتكاك بين المجتمع والدولة

ما زلت أذكر خط الهاتف الذي دفعت للحصول عليه مبلغ 14 ألف ريال في مطلع التسعينيات. وما زلت أذكر هواتف سيناو اللاسلكية التي اضطررت إلى استعمالها، لأن الهاتف كان يومئذ إدارة حكومية، لا تسمع ردا من موظفيها سوى ''لا توجد بدالة، البدالة ممتلئة وليس فيها إمكانية لأرقام جديدة'' ... إلخ. لم نعد نسمع اليوم هذه الأسطوانة، لأن الحكومة قررت أن تريح نفسها من تجارة الاتصالات، وحسنا فعلت.
في هذا اليوم لم يعد الناس يلومون الحكومة إذا تعطلت هواتفهم، لأن الهاتف لم يعد دائرة حكومية. لو أردنا صياغة هذا المعنى بلغة سياسية فسنقول: إن خدمة الاتصالات لم تعد نقطة احتكاك بين الحكومة والجمهور، كما كان الأمر قبل 20 عاما.
جوهر المسألة إذن هو عدد ''نقاط الاحتكاك'' بين المجتمع والدولة. نفهم أن رضا الناس ليس غاية يسهل ضمانها، لكن الفرق شاسع بين فلسفة في العمل الإداري هدفها تقليل نقاط الاحتكاك، أي تقليل مساحة التغاضب بين الدولة والمجتمع، وفلسفة معاكسة تستهدف، أو تؤدي -موضوعيا- إلى زيادة نقاط الاحتكاك، أي تقليل مساحة التراضي بين الطرفين.
دعنا نضرب مثلا آخر من حوادث هذه الأيام. فقد ذكرت الصحف أن هيئة الاتصالات، وهي جهة حكومية، تريد إيقاف خدمة الواتساب. وشهدنا الحملة الواسعة في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تندد بهذه الفكرة. حظر الواتساب سيخلق نقطة احتكاك جديدة بين الحكومة من جهة وبين ثلاثة ملايين من مستعملي هذا التطبيق في المملكة .. فهل تحتاج الحكومة إلى هذا؟
هذا المقال لا يخاطب هيئة الاتصالات، وليس غرضه المطالبة بإبقاء الواتساب أو غيره، بل يستهدف على وجه التحديد تنبيه مسؤولي البلد إلى التبعات السياسية لقراراتهم. أعلم أن بعض القرارات يتخذ على أعلى المستويات، وبعضها يتخذ في مستويات متوسطة أو دنيا، ويوقعه أحد الكبار دون تمحيص لمضمونه، أو لانعكاساته على مسار العلاقة بين الدولة والمجتمع، أي ''عدد نقاط الاحتكاك'' التي يضيفها أو يقللها.
لهذا فإني أتمنى أن يبادر كل وزير إلى مراجعة القرارات والإجراءات المتخذة في وزارته، تلك المتعلقة خصوصا بتعاملات الوزارة مع الجمهور، وأن يضع أمامه دائما السؤال التالي: كيف ينعكس كل منها على علاقة المجتمع بالدولة، هل يزيد نقاط الاحتكاك أم يزيد مساحة الرضا والتراضي؟
لا شك أن رضا الجمهور عن الخدمات العامة التي تقدمها أجهزة الدولة أهم معايير النجاح السياسي، وبالعكس فإن غضب الجمهور دليل واضح على الفشل.
ترى ما الذي يريده الوزير أو المسؤول الكبير: أن يوصف بالنجاح أم أن يوصم بالفشل؟ هل يريد تلطيف العلاقة بين المجتمع والدولة، أم يريد زيادة نقاط الاحتكاك بينهما؟ هذا هو لب الموضوع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي