الشركات الابتكارية في أوروبا والمنصات المالية
هناك من يرى قيمة في رأس المال المخاطر الأصغر حجما. وفي هذا الصدد تقول إليزابيث روبنسون إن "الشركات الأمريكية الكبرى لن تنخرط في الصفقات الصغيرة". والسيدة روبنسون حاصلة على درجة الدكتوراه في التكنولوجيا الحيوية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وشاركت في تأسيس شركة "نيكوكس" في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حيث أجريت البحوث أصلا في إيطاليا بتمويل من شركات فرنسية وسويدية لرأس المال المخاطر. وقد بدأت هذه الشركة عملها بتوفير العلاجات لأمراض المعدة وانتقلت بعد ذلك إلى أمراض العيون. وقالت عنها روبنسون لمجلة التمويل والتنمية "إنها كانت بمنزلة مساع أوروبية حقيقية".
وتشغل السيدة روبنسون حاليا منصب نائب رئيس شركة "إنداكو" “Indaco Venture Partners” التي تضم صندوق الاستثمار الأوروبي ضمن قائمة المستثمرين فيها وتركز على 5 مجالات في الابتكار، منها التكنولوجيا الطبية والتكنولوجيا البيولوجية. وترى أن أوروبا أمامها فرصة للاستفادة من تخفيضات التمويل التي أعلنتها المعاهد الوطنية للصحة.
تغيير العقليات
ذات مرة، عندما سئل مؤسس "سبوتيفاي"، دانييل إيك، عن منهج أوروبا إزاء الشركات البادئة جاءت استجابته في شكل قائمة من الأغاني المسجلة في مقدمتها أغنية “Wake up” (انتبهوا) للفرقة الموسيقية الأمريكية Rage Against the Machine، التي جاء ضمن كلماتها: "ما الذي ينبغي أن أفعله لكي أنبهكم؟ لكي أحرك مشاعركم، لكي أحطم البنيان تحطيما".
وهناك بوادر مشجعة في الوقت الراهن بأن أوروبا في سبيلها للانتباه أخيرا. ويشير تقرير عن مستقبل التنافسية الأوروبية من تأليف ماريو دراغي، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، إلى أن تسريع وتيرة الابتكار هو أول تحول مطلوب لإطلاق إمكانات الاقتصاد الأوروبي نحو المستقبل. ودعا المؤلف إلى اعتماد مبلغ إضافي سنويا قدره 800 مليار يورو للإنفاق على الاستثمارات الخضراء والرقمية وفي مجال الدفاع.
وتبدي أوروبا حاليا استعدادها لزيادة الاستثمار كذلك في الذكاء الاصطناعي. وقد جلب مؤتمر القمة بشأن العمل في مجال الذكاء الاصطناعي الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في فبراير 2025 وعدا بمبلغ 109 مليارات يورو من فرنسا ذاتها والتزاما من السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيس المفوضية الأوروبية، بتعبئة أموال من الاتحاد الأوروبي والقطاع الخاص تصل في مجملها إلى 200 مليار يورو. ولكن هذه المبالغ أقل كثيرا، على سبيل المثال، من الالتزام الأمريكي بمبلغ 500 مليار دولار لمشروع "ستارغيت"، بقيادة شركة الذكاء الاصطناعي OpenAI وغيرها من الشركات.
ويعد تزايد انخراط بنك الاستثمار الأوروبي وصندوق الاستثمار الأوروبي في تلك الجهود مؤشرا على أن الأمور تمضي في الاتجاه الصحيح. ففي 2024، استثمر بنك الاستثمار الأوروبي مبلغا قياسيا قدره 19,8 مليار يورو في شركات التحول الرقمي والابتكار عالية المخاطر، وفقا لما ورد ذكره في التقرير السنوي للبنك. ومن ذلك المبلغ، هناك مبلغ قدره 14,4 مليار يورو من صندوق الاستثمار الأوروبي، نصفه في هيئة حصص ملكية. كذلك قام بنك الاستثمار الأوروبي بزيادة استثماراته الرأسمالية إلى الضعف في شركات تكنولوجيا الأمن والدفاع.
الذكاء الاصطناعي والأحذية
تشكل الجامعات أرضا طبيعية خصبة للابتكار. ورغم أن أوروبا تفتقر للمؤسسات العملاقة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة ستانفورد، فإن عددا كبيرا من الجامعات يضم حاليا منظومات بيئية تواصل الازدهار ونشرت العديد من الشركات الناشئة المليارية، أي الشركات البادئة التي تتخطى قيمتها المليار دولار. وتشغل جامعة كمبريدج أعلى مرتبة في تصنيف الجامعات من حيث عدد الشركات المنبثقة عنها وهي تعتزم تسريع وتيرة التقدم في علوم التكنولوجيا والحياة في غضون السنوات الـ10 المقبلة. ومن أقدم الأمثلة وأكثرها نجاحا شركة ARM، التي تنتج أشباه الموصلات والبرمجيات المستخدمة في الهواتف الذكية، وتأسست في 1990.
ويأتي في المرتبة التالية المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، مهد صناعة تكنولوجيا الجيوب المجوفة ذات العلامة التجارية المستخدمة في نعال الأحذية الرياضية السويسرية من ماركة ”On”. ومن المؤسسات الأكاديمية الأخرى البارزة في الابتكار الجامعة الفنية في ميونخ في ألمانيا، وجامعة ديلفت للتكنولوجيا في هولندا، وجامعة آلتو في فنلندا.
وهناك مزيد من الأنباء الطيبة. فقد قام 3 من خريجي جامعة كويمبرا في البرتغال، التقوا معا أثناء عملهم في وكالة الفضاء الأوروبية، بإنشاء منصة Feedzai، وهي منصة إلكترونية لمكافحة الاحتيال المالي من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات البيومترية لتحديد الهوية. وهناك عديد من المؤسسات المالية العالمية تستخدم هذه المنصة حاليا لمراقبة مدفوعات بقيمة 6 تريليونات دولار سنويا.
ورغم تمويل هذه الشركة من جانب المستثمرين الأمريكيين في رأس المال المخاطر وأن لها مكاتب حاليا في سيليكون فالي، فإنها لا تزال محتفظة بمقرها الرئيسي في كويمبرا التي تعود نشأة جامعتها للقرن الـ13. وفي حديث مع الصحيفة البرتغالية بوبليكو، قال نونو سيباستياو، أحد مؤسسي المنصة إن "هناك قيمة في بقائنا هنا لأننا نرغب في مواصلة المساهمة في تطوير المنظومة البيئية". وأدت إحدى المبادرات التي تزعمتها منصة Feedzai إلى انطلاق 12 شركة بادئة وجمع تمويل قدره 412 مليون دولار.
ويتفق المبتكرون والمستثمرون في رأس المال المخاطر والأكاديميون على أن الأمور في أوروبا تتحرك حاليا في المسار الصحيح. وعن هذا، يقول فرانسيسكو سيروتي، المدير العام لتحالف التكنولوجيا الإيطالي إن "مفوضية الاتحاد الأوروبي أصبح لديها لأول مرة مفوض معني فقط بشؤون الشركات البادئة والبحث والابتكار. ولكن هناك حاجة إلى ترجمة الكلمات إلى أفعال. وعلى وجه السرعة".