قناع الهزيمة
متذوقو الشعر العربي يفتشون اليوم عن القامات الشعرية التي تمنحهم ( الهزة الشعرية ) ، التي اعتاد العربي أن تأتيه منمقة بالإيقاع الموسيقي المتناغم مع الروح والصورة المفردة لتفعيلات الشعر العربي ، فكافأتهم العولمة " بقصيدة النثر " الهجينة الغامضة الثلجية، فأثاروا النقع موعدهم الفن العربي الأصيل ، وتلك الأغاني الخالدة في ذواكرهم ، ليجدوا الفضاء الفني مكتظا بالرقص والدربكة المزعجة حتى في أغاني الوجد والشجن التي لا تحتمل أكثر من آلتين ، ثم تصفعهم العولمة على رؤوسهم بأغاني ( الراب ) التي مزقت أشلاء الشعر والموسيقى بكلماتها التافهة وأدائها المر .
ومايزال أصحابنا المتذوقون يبحثون عن الجمال العربي عندما صاروا لا يعرفون نساءهم بعد أن عتبت العربية على سلالتها البشرية ، وغيرت ألوانها وملامحها لتتحول إلى دمية بشعة ، وكأني بالقارئ المتفاجئ بعنوان قصيدة الشاعر محمد الثبيتي ( زنجية شقراء ) لكنه اليوم لا يتفاجأ وهو يرى تداخل السلالات صناعيا حتى بأيدي الجراحين .
والحقيقة أن أصحابنا المتذوقين قرروا اللجوء إلى أعلم منهم ، عندما تسابقوا على أساطين النقد ، فأصيبوا بالتليف الفكري وهم يجدون ( كبير القراء ) ، يأتي بطلاسم متشابكة الدوائر التي لا يفلج حلقاتها إنس ولا جان ، وهو ـ على علاته ـ أرحم ممن صبوا جام حقدهم واحتقارهم لما تركه الأجداد من إرث ، حتى صار حديث الجاحظ والجرجاني والرازي، بل وحتى المقامة والقصيدة العمودية وشعر التفعيلة الحديث من أساطير الأولين التي يجب الكفر بها ، على الرغم من احتفال الكثير من النقاد والمبدعون بأساطير اليونان والترويج لها .
إن أبدينا تحضرنا وانفتاحنا على الآخر ، فليس الأمر ـ في نظري ـ تحضرا ، بل هو إعلان هزيمة ساحقة أصابت المشروع الثقافي العربي ، حتى حولت الشعراء والفنانين والنقاد والمفكرين إلى مقلدين ، لا يقدمون للإنسانية شيئا ، ولن يقدموا ماداموا يتوجهون بتقليدهم إلى صاحب النسخة الأصلية الذي ليس بحاجة إلى نتاجهم المستنسخ .
وفي نظري ـ أيضا ـ أن هؤلاء المقلدين لم يقلدوا عبثا، بل هم ضحايا الضعف السياسي للحكومات العربية ، التي لم توجه طاقاتها وأبناءها إلى تعزيز الهوية العربية ، ولم تسلحهم برؤية فكرية جادة ورسالة خالدة يجب إيصالها بأمانة إلى الآخر، بل استسلمت للمد العولمي لتحقيق مكاسب جزئية ، لكن هذه المكاسب ألهت القوم عن النظر في القواعد التي اعتملت فيها معاول الهدم ، والصحائف الأصيلة التي تعرضت للمحو ، وطمس منابت الضياء في الذات العربية .
المكابرة عن الاعتراف بالهزيمة هي ـ أيضا ـ معولٌ شديد التأثير في الهدم والمحو ، فلو اعترفنا على كل الصعد بهزيمتنا ؛ لكان الاعتراف بداية مشروع ثقافي إحيائي ، فالسياسي بحاجة إلى المفكر، كما المفكر بحاجة إليه ، وكلاهما يجب أن يعملا على رفع قدر الأمة بين أمم الأرض ، ووضع استراتيجيات بعيدة المدى تعيد التوازن إلى الأمة ، من خلال ترسّم خط إلى مشروع فكري شامل لا يحتقر أدنى موهبة في الوطن العربي ، بل يعززها وينميها ، فأقوى أذرعة العولمة اليوم التي تؤثر في البشرية هي الفنون بأنواعها، التي يشاهدها الناس ببراءة ، وهم لا يعلمون أنها تقدم النموذج الذي يريده السياسي برؤية المفكر الحصيف الذي " يعلم من أين تؤكل الكتف " ، فمشاهدة واحدة لفيلم أمريكي تشرح ما أردت إيصاله ، فلم تفرض أمريكا ( لباسها وطعامها ورقصها وثقافتها وأفكارها ) على ظهر الدبابة ، بل قدمتها بثوب أنيق من الفن المتعوب عليه إخراجا ولغة وحتى سيكلولوجيا ، لأن العبرة بتحقيق الهدف للملايين الضخمة المُنفَقة في عمل واحد .
الهزيمة الثقافية هي أقسى أنواع الهزائم ، لأن البطء ديدنها في الغزو وفي المكوث وفي التعافي حتى ، ومخطئ من ينسب أي إخفاق لنا إلى عوامل أخرى ، فكل إخفاقات الأمة متعلقة بهذه الهزيمة ، حتى الإخفاقات الرياضية مرتبطة بهذه الهزيمة ؛ لأنها سكنت كل ذات ، وجعلتها تستسلم ، فلو تأملنا فقط مباراة كرة قدم بين فريق عربي وفريق غربي ، لقرأنا تلك الهزيمة في وجه اللاعب ، وتحرك الفريق ، وحتى تشكيلته الدفاعية ، لأنه مستسلم ثقافيا قبل أن يبدأ المناورة الرياضية ، وفي المقابل انظر إلى شراسة اللاعب العربي وبراعته أمام فريق عربي آخر .
لنتأمل حالنا اليوم وساستنا ومفكرونا لا يلقون بالا للفنان ولا للموهوب ، ومبدعونا لا يكتبون حتى النصوص الدرامية إلا نادرا ، فيضطر الفنانون إلى تكوين تكتلات خاصة تخضع لمعايير بدائية كالمحسوبيات والمناطقيات ، ومضامين بالية لا تستفز كوامن التفكير ؛ ليخرجوا بعمل تقرأ خاتمته من بدايته ، بإمكانات ضعيفة مضحكة ، ربما تصرف المتابع عن العمل إلى التندر والسخرية .
لنتأمل حالنا اليوم ونقادنا لا يتحدثون عن الأدب العربي ولا عن الإبداع العربي إلا بمقاييسهم المستقاة من المدارس الغربية ، حتى زهد المبدع فيما لديه ، وأخذ يجري خلف سرابات رؤاهم من أجل أن يطفو على السطح ، فهذا شاعر يرصف كلاما لا يفهمه ، ولا يحمل رسالة ، وذاك رسام يطرطش بالألوان ( التي استدانها ) في لوحة يبلت عندما تقول له أعطني مفتاح قراءتها .
لنتأمل الحال ومشائخنا يقفون سدا شوكيا يجرم الفن وأهله ، بدلا من توجيههم الوجهة التي تخدم رسالتنا إلى الإنسانية ، كما حملها ( مسلسل عمر بن الخطاب )، فإن كنا نعرف عمر ونجلّه ـ رضي الله عنه ـ فمن حقنا أن نعرّف الآخر به ، وأن نقول له لدينا شخصياتنا التي نعتز بها ،ونخاطب الآخر بطريقته التي يخاطبنا بها ، لأنه لن يسمع مواعظنا ولا خطبنا المنبرية العصماء ، فالمترجمون مشغولون بترجمة الأفلام والكتب الغربية ، وكذلك لن يجدي خطابنا الموسوم بالعدائية والتباكي، لأنه بات ذريعة لوسمنا بالعنف والتطرف .
لنتأمل الحال والفنان العربي يُختزل ، ويتفّه ليصبح صوتا لشخصية أخرى ، من أجل أن يكسب قوته , وإعلاميونا واقتصاديونا يبخسونه حقه في إنتاج عملٍ يحمل فكر ثقافته ، ورؤيته للوجود ورسالته إلى العالم . ولنصيخ جيدا بعيدا عن صراع الأطياف الفكرية الأجوف إلى صوت العقل ، والبعض يقدم المغريات لمن تتنازل عن هويتها وتجري خلف سراب الشهرة ، ولا يشترط فيها من مقومات الإبداع إلا هذا التنازل الثمين ، وما لهذا الفعل المتهم من دور عميق في إضعاف الإبداع العربي .
لقد سئمنا استيراد أغذيتنا واستهلاكها ، رغم أن هذا الأمر تفرضه الجغرافيا والمنافع المتبادلة بين العالم ، أما أن نستورد رؤيتنا ورسالتنا ، ومقاييس إبداعنا وجمالنا من الآخر فلن يفيدنا في شيء ، ولن تكون مؤثرة عندما نعيدها إليه ، فقبل أن نفكر في استخدامها للتأثير عليه سلبا أو إيجابا، ستكون أنجزت الهدف الذي صُممت من أجله ، وسنكون كالذي يهدم بيته؛ ليستخدم الركام سلاحا يدافع به عن نفسه.
ختاما ياسادة ، يجب أن نخاطب أنفسنا قبل أن نخاطب الآخر ، يجب أن نتفق على وحدوية الخطاب الذي نتحدث به إلى بعضنا البعض ، وأهم مافي هذا الخطاب أن يكون نابعا من ثقافتنا وهويتنا ، معترفا بأصالتنا وعصرنا ، لا نستعيره من الآخر ،عندئذٍ أجزم أننا إن استطعنا صياغة هذا الخطاب ، ستكون صياغة خطابنا إلى الآخر في كل الدنيا أسهل بكثير مما يصوره عجزنا وشعورنا بالهزيمة .
وختام الختام :
لنسأل أنفسنا : لماذا زهد أبناؤنا فيما لدينا ، وانكبوا بشراهة على ما يقدمه الآخرون ؟!
أحمد عيسى الهلالي ـ المسؤول الإداري بأدبي الطائف