تاتشر الإنسان
من الصعب أن أفصل بعض ذكرياتي الشخصية عن مارجريت تاتشر - والتي تتسم بالبساطة ولكنها كاشفة ـــــ عن الأحكام الكاسحة التي يصدرها التاريخ. فقد عملت معها باعتباري مديراً للبحوث في حزب المحافظين، وبوصفي وزيراً لنحو 15 عاما، قبل أن أذهب إلى هونج كونج كآخر رئيس بريطاني هناك. ولأنها أدارت مفاوضات تسليم هونج كونج إلى الصين، فإنها كانت زائرة معتادة وموضع ترحيب كبير أثناء فترة ولايتي.
كانت تاتشر شديدة الدعم لصيانة سيادة القانون، والحريات المدنية، والتطلعات الديمقراطية في هونج كونج. وكانت تبدي تعاطفها مع الناشطين الموالين للديمقراطية وإعجابها بهم. كما أتذكر أنها كانت الزائرة الوحيدة لمقرنا الرسمي ــــ وكان الزائرون كثر ــــ التي تقوم بترتيب فراشها بنفسها، رغم أن المقر كان عامراً بعدد كبير من الموظفين الممتازين الجادين في عملهم "والذين كانت تتعامل معهم دوماً بكل لطف وكياسة".
وكانت تاتشر تصر على نحو ثابت لا يتغير، عندما تسافر في مهمة عمل إلى بكين، على شراء هدية أولاً للزعيم الصيني السابق زهاو زيانج، الذي تفاوضت معه على تسليم هونج كونج. ومنذ أحداث القتل في ميدان السلام السماوي، التي حاول تجنبها من خلال التسوية، وضع زهاو زيانج تحت الإقامة الجبرية. وكلما كانت تطلب من أي مسؤول كبير تقابله أن يسلم هديتها وأطيب تمنياتها إلى زهاو، فإن الزعامة الصينية كانت تدرك أن العالم الخارجي لا يزال يفكر فيه ويريد أن يضمن سلامته. وكان ذلك التصرف عملياً ورقيقا.
ومن عجيب المفارقات هنا أنها جعلت الحكم المسؤول الجدير بالثقة ممكناً مرة أخرى جزئياً من خلال تقليص دور الدولة في الاقتصاد. وبإصلاحاتها أرست الأساس لفترة ارتفع فيها نصيب الفرد في الثروة في بريطانيا بسرعة فاقت كل منافسيها.
فقد نشّطت إصلاحات تاتشر القطاع الخاص، وعززت ملكية المساكن. وخفضت الضرائب على الشركات، وألغت القيود التنظيمية التي كانت مفروضة على أجزاء كبيرة من الاقتصاد، وكبحت جماح النقابات المهنية لتسخير قوتها في الصناعة. وكانت عاقدة العزم على تنفيذ برنامجها الإصلاحي، ولكن بقدر كبير من البراجماتية المستترة ـــــ على الأقل حتى أعوامها الأخيرة في السلطة. فكانت تتحرك خطوة بخطوة في الاتجاه نفسه وبعزيمة لا تلين. وما كان لأحد في الحكومة أن يزعم أنه لم يكن على يقين من الغايات التي ترمي إلى تحقيقها.
والواقع أن الإصلاحات التي طبقتها لمست وتراً حساساً على الصعيد الدولي. فقد تزامنت ولايتها مع انهيار الشيوعية السوفيتية في أوروبا، والذي بلغ ذروته بسقوط سور برلين في عام 1989. فكانت تاتشر صريحة واضحة في انتقادها للشيوعية السوفيتية مثل صديقها وشريكها على الجانب الآخر من الأطلسي، رونالد ريجان. وكان اعتناقها لمبدأ حرية الأسواق ـــــ وإعلاناتها الرنانة عن علاقة الارتباط بين الحرية السياسية والاقتصادية ـــــ ملهماً لشعوب الكتلة السوفياتية، التي عانت نير الإمبراطورية السوفياتية طيلة 40 عاما.
وفي حين كانت كراهيتها لإعادة توحيد شطري ألمانيا نابعة من سوء تقدير، فإن شكوكها حول القدرة على التوفيق بين التكامل السياسي الأكبر في الاتحاد الأوروبي والمسألة الديمقراطية في الدول الأعضاء اكتسبت عدداً كبيراً من المتعاطفين على مر السنين ــــ وليس فقط في بلدها. وقد مارست الضغوط من أجل تعزيز المزيد من تكامل السوق الأوروبية المشتركة، في حين شككت في ضرورة التنازل عن المزيد من السلطة السياسية للمفوضية الأوروبية.
ويرى كثيرون أن حرب فوكلاند في عام 1982 كانت نقطة الأوج لحسها الوطني. غير أنها كانت بالقدر نفسه علامة على جرأتها السياسية.
فكانت استعادة هذه التبعية البريطانية النائية، والتي كان مواطنوها ملتزمين بكل حزم بالبقاء كرعايا بريطانيين بعد الغزو الأرجنتيني، بمثابة عمل عسكري بالغ الجرأة. وكان من الممكن أن ينتهي الأمر إلى كارثة مروعة، فتسقط هي وإدارتها. حتى أن إدارة ريجان كادت تمتنع عن دعم الحملة العسكرية البريطانية، ولكن الحظ لم يتخل عنها، وعزز نصرها من سمعتها كسيدة دولة حازمة وشجاعة. وعلى حد تعبير سائقي سيارات الأجرة آنذاك، فإنها كانت "أفضل رجل في الحكومة".
كانت تاتشر عادة أكثر حرصاً مما اقترح المعجبون بها لاحقاً فيما يتصل بالطريقة التي كانت تشرع بها في القيام بالأمور. ولكن شغفها بالفكرة التي تكرس نفسها لها كان ينثر أنواراً ساطعة عبر عالم السياسة المطلي عادة بظلال اللون الرمادي.
لم تكن مارجريت تاتشر مثالية. فقد كانت، مثلها كمثل أي شخص آخر، ترتكب الأخطاء وتسيء الحكم على بعض الأمور. ولكنها كانت بلا أدنى شك من عمالقة السياسة في القرن العشرين، وكانت زعيمة غيرت عالمها وعالمنا ـــــ إلى الأفضل.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.