..وماذا عنا في المملكة العربية السعودية؟
كانت المملكة وما زالت تمتلك اقتصادا مفتوحا، ينتج القليل (باستثناء البترول) ويستورد جل ما يحتاج إليه من خدمات وسلع من السوق الدولية. نظام اقتصادي يؤمن بنظرية الاقتصاد الحر، مع العلم أن القطاع العام كان ولا يزال المهيمن على مفاصل الاقتصاد. تطور اقتصاد المملكة من بدائي إلى ما هو عليه الآن، وأثناء هذه الرحلة لم يتم تعريفه بأي تصنيف خاص به؛ لهذا يجد الملاحظ أن فيه من صفات النظام الرأسمالي والموجه... إلخ.. إذن هو اقتصاد مختلط تقوده دولة الرفاهية، وتتصرف حسبما تواجهه من أمور أثناء تفاعل النشاطات الاقتصادية، فالدولة لم تتوان عن التدخل المباشر حين تقتضي الحاجة مع إيمانها بمبدأ الاقتصاد الحر وكفاءة آلية السوق في النهاية. وتدخلها هذا ينبثق من طبيعة الاقتصاد السعودي، خاصة ملكية الدولة لأهم مصدر دخل، وليست منبثقة من إيمانها بأيديولوجية معينة حاول منظروها إقناع العالم بصحتها ونبلها.
قيادة المملكة أدركت منذ توحيدها على يد المغفور له الملك عبد العزيز - رحمة الله عليه - أن اتباع سياسة برجماتية هو الطريق الأسلم لتنمية المملكة، ولا خير في تنمية لا تقود إلى رفاهية الوطن والمواطن، تنمية تحترم الإنسان وتصون كرامته. ولهذا تدخلت حكومة المملكة، كمثال، وأجبرت تجار المواد الغذائية الأساسية في عام 1967 على التراجع حين رفعوا الأسعار فورا بحجة إغلاق قناة السويس، وأن اقتصاد المملكة اقتصاد حر وهم أحرار في التصرف في بضائعهم.
ومن طرائف تلك الفترة أن رساما كاريكاتيريا وصف التالي ''المشتري للبائع: ''بكم سعر هذا الحبحب (الجح)؟ البائع: ثلاثة ريالات، المشتري: لكنني اشتريتها بالأمس بريال، البائع: يبدو أنك لم تسمع الأخبار فلقد أغلقت قناة السويس، وهنا انفجر الراغب في الشراء وقال: ما دخل هذا الإغلاق بالحبحب فهذا إنتاج محلي لا يتأثر سعره بإغلاق قناة السويس؟
فتدخل الدولة للسيطرة على الأسعار وعدم تركها لآلية السوق لإعادتها إلى الاستقرار، خاصة في الحالات الطارئة، هو المنطق الصحيح، وليس كفرا بفلسفة الاقتصاد الحر لمن يفهمها حقا من دون أدلجة.
ولهذا لم تتردد الحكومة في التدخل المباشر لمساعدة المصارف السعودية حين ضربت الأزمة المالية العالم مع أن القائمين عليها كانوا يطمئنوننا بأن المصارف السعودية في منأى عن تلك المشاكل. لا بل وصل التطمين في السنة الأولى من الأزمة إلى دعوة العالم للتعلم والتثقف من حصافة وكفاءة إدارة القطاع المصرفي في السعودية. ولا شك في أن المصارف السعودية لم تواجه الصعاب الجسيمة التي أدت إلى إفلاس أو الاندماجات شبه القسرية بين بعض مصارف العالم، فقاعدتها الرأسمالية كانت إلى حد ما قوية، لكنها لا شك تأثرت بما حدث في العالم على الرغم من أن بعض التصريحات، التي انبثقت من تلك النشوة العارمة، حاولت إقناعنا بأننا لن نتأثر بما يحدث في العالم في تلك الفترة.
ومع كل التقدير للقائمين على إدارة المصارف السعودية بالتنسيق مع السياسة النقدية والمالية في المملكة، فإنني أعتقد أن الذي خفف من الأثر السلبي لما حدث كان:
أولا: طبيعة نشاط المصارف السعودية الذي يركز على الجانب التجاري وليس الاستثماري. وهذا الأخير كان المسبب الأكبر للأزمة المالية (الرهن العقاري في الولايات المتحدة).
ثانيا: استعداد الدولة لضخ الأموال لتقوية القاعدة الرأسمالية لأي مصرف يتعرض للضغط، لا بل إن الكل يعلم من تاريخ المملكة أن حكومتها دائما حافظت على حقوق عامة المساهمين، ولم تتخل عن تلك المسؤولية بذريعة أن المتسبب سوء إدارة المصرف.
ولم تحتج إلى انعقاد المجالس التشريعية ليلا ونهارا للموافقة على فكرة إعانة المصارف لحمايتها من الانهيار.
وحسبما أعرف فإن ''بنك الرياض'' القائم الآن ما هو إلا امتداد لـ''البنك الوطني'' سابقا، الذي واجه صعوبات جمة فتدخلت الدولة لإعادة هيكلته ولم تتركه يختفي من الوجود.
دولة الرفاهية يجب أن يكون همها الأوحد والأهم في النهاية رفاهية الفرد وحفظ حقوق عامة الناس حماية لأمان المجتمع واستقراره.
«يمكن الرجوع لمقالين سابقين في «الاقتصادية» بتاريخ 27 فبراير و6 مارس 2013 لهما علاقة بمقالة اليوم».