لا مكان للمثاليات في عالم السياسة

في عام 1964 قضى جواهر لال نهرو أول رؤساء الحكومات في الهند وبطل استقلالها ومحررها من الاستعمار البريطاني تحت وطأة إحباطه وانكساره النفسي الناجمين عن هزيمة بلاده على يد جارتها الصينية في الحرب الحدودية القصيرة في عام 1962. كان نهرو، الذي صاغ سياسة بلاده الخارجية بنفسه بُعيد الاستقلال، مثاليًّا في عالم يخلو من المثاليات والمبادئ الأخلاقية، وحالمًَا في عالم لا يعترف إلا بالواقعية. كان يعتقد أن حضارة بلاده الموغلة في القدم، وتاريخها المعجون بتاريخ الإنسانية، ونظامها الديمقراطي المدعوم بالعلمانية، ونهجها السلمي المبني على فلسفة المهاتما غاندي اللاعنفية عوامل كفيلة بأن تنقذها من أي اعتداء خارجي، خصوصًا من الصين التي ارتبط برئيس وزرائها الأسبق تشوإن لاي بعلاقات شخصية وطيدة مكنت الأخير من المشاركة والبروز على الساحة الدولية من خلال مؤتمر باندونج في عام 1955 الذي تم فيه وضع اللبنات الأولى لما سيُعرف لاحقًا بـ''حركة عدم الانحياز''. بل تجاوز نهرو ذلك إلى القول إنه لو هوجمت بلاده من الصين أو أي قوة أخرى فإن العالم بأسره سيهب لنجدتها، دفاعًا عن قيمها وتمسكها بمبادئ السلام والتعايش السلمي.
وبلغ تمسك نهرو بالأخلاق والمثاليات في عالم السياسة والعلاقات الدولية حدًّا جعله لا يكترث كثيرًا في السنوات الأولى من الاستقلال ببناء ترسانة عسكرية ضخمة مزودة بأنياب تستطيع أن تكشرها في وجه أي طامع.
غير أنه سرعان ما تبين أن الرجل كان مخطئًا في تقديراته. فالصين هاجمت بلاده بغتة، وهزمتها شر هزيمة، واستولت على آلاف الكيلومترات المربعة من أراضيها الشمالية. والقوتان العظميان القادرتان وقتذاك على لجم أطماع الصينيين الحمر في بكين ظلتا تراقبان دون تحريك ساكن فيما عدا بعض بيانات الاستنكار الإنشائية. والأسوأ من ذلك أن مصر ممثلة في صديق نهرو الشخصي، جمال عبد الناصر، اتخذت موقف الحياد تجاه الأزمة. والحياد في مواقف كهذه يصب في مصلحة الجاني وليس المجني عليه. وعلى حين كان ذلك هو موقف مصر عبد الناصر، كان موقف العاهل السعودي الراحل فيصل بن عبد العزيز الذي كان نهرو يرى فيه حليفًا مخلصًا لباكستان- هو الوقوف مع الهند ضد الصين، لكن عزاء نهرو أن ابنته السيدة أنديرا غاندي التي تولت قيادة الهند بعد مرحلة انتقالية قصيرة شغل فيها منصب رئاسة الحكومة لال بهادور شاستري، وشهدت اعتداء عسكريًّا آخر على الهند من قبل جارتها الباكستانية، نجحت في أن ترسم سياسة بلادها الخارجية على قواعد جديدة مغايرة، عمادها الواقعية والمصالح المشتركة مع الآخر، وليس المبادئ الأخلاقية والمثاليات. وكان الاتحاد السوفياتي أول الدول التي استغلت هذا التوجه الخارجي الهندي الجديد، مدفوعة بعاملين هما نزاعها الأيديولوجي المرير مع حكام بكين الحمر من جهة، واستياؤها من سياسات غريمة الهند الباكستانية، وانخراطها في الأحلاف الغربية المناوئة لموسكو من جهة أخرى. وهكذا رأينا نشوء تحالف استراتيجي متين وعلاقات متشعبة في مختلف المجالات ما بين نيودلهي وموسكو؛ لأن مصالح الطرفين اقتضت ذلك، وليس إيمانًا من الهند بسياسات الكرملين، أو إعجابًا من السوفيات بديمقراطية النظام الهندي. فالهنود أرادوا وقتذاك من السوفيات أن يضمنوا لهم تفوقًا عسكريًّا وتكنولوجيًّا على غريمتيهم الصينية والباكستانية. والسوفيات في المقابل أرادوا توطيد نفوذهم في منطقة تطل على المياه الدافئة وقريبة من مناطق النفوذ الغربي في الخليج.
ومناسبة هذا الحديث الذي كررناه مرارًا في العديد من المقالات والدراسات الأكاديمية هو ما جرى أخيرًا على يد صناع القرار الديمقراطيين في البيت الأبيض، وأنصارهم من الأنتلجنسيا الأمريكية المنضوية تحت جناح ''اليسار الليبرالي'' حيال المتغيرات في المنطقة العربية والناجمة عما أطلق عليه الأمريكيون دون وعي ''الربيع العربي''. وكما فصل زميلنا عادل الطريفي أخيرًا في مقال له في جريدة ''الشرق الأوسط'' (19/9/2012)، فإن كل هؤلاء ركبوا الموجة انطلاقًا من فكرة أن الوقوف في وجه انتفاضات ''الربيع العربي'' يعد تناقضًا مع مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية التي تؤمن بها الإدارة الأمريكية، وطبعًا هذا الإيمان مشكوك فيه إذا ما استحضرنا مواقفها المعروفة من القضية الفلسطينية. وبهذا العمل فإنهم تعاملوا بسطحية ولا واقعية مع ظروف منطقة شديدة التعقيد كمنطقة الشرق الأوسط، مستسلمين للمثاليات فقط. بل راحوا أبعد من ذلك حينما لم يجدوا غضاضة في القبول بمن سرقوا ثمار ما سموه ربيعًا عربيًّا، من جماعات إسلامية كحكام جدد، رغم علمهم أن هذه الجماعات لم تكن مفردات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية يومًا ضمن خطابها السياسي، إنما ارتكز خطابها على شعار فضفاض هو: ''الإسلام هو الحل''، شأنهم في ذلك شأن الجماعات اليسارية والقومية التي ركزت خطابها منذ خمسينيات القرن الماضي على ''مقاومة الإمبريالية'' فلم تقاوم نملة، وعلى ''تحرير فلسطين'' فلم تحرر شبرًا، وإنما استباحت باسميهما كل القيم والمُثُل والحقوق الإنسانية.
الأسوأ من كل هذا أن إدارة أوباما، ومعها اليسار الليبرالي الأمريكي، في تعاملها السطحي واللاواقعي مع المشهد العربي باعت الحليف والصديق لصالح المجهول، وفرطت في المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة، بل ادّعت قبل التيقن من الأمر، وبطريقة لا تتسق مع القدرات الاستخباراتية لدولة عظمى كأمريكا أن ''الربيع العربي'' دليل على انحسار وتضعضع جماعات الجهاد والتطرف كتنظيم القاعدة، وهو ما أكدت الأحداث المتتابعة عدم صحته بدليل الصعود المخيف لعمليات التنظيم وأنصاره في اليمن وشبه جزيرة سيناء وشمال إفريقيا وجنوب الصحراء والصومال. بل إن الحقيقة المرة هي أن ما تمخض عنه ''الربيع العربي'' من نتائج مثل الغياب الأمني، وانتشار الفوضى، وصعود الإسلاميين إلى السلطة في بلاد لم يحلموا يومًا الإمساك بمقدراتها، ساهمت في تضخم غرور القاعدة وارتفاع معنويات رجالها.
وجملة القول؛ أن ساسة واشنطن، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية، سرعان ما اكتشفوا أن مواقفهم تجاه أحداث المنطقة المبنية على ''المبادئ الأخلاقية'' المزعومة، عوضًا عن المصالح والواقعية السياسية والإلمام الدقيق بتفاصيل المشهد العربي، جلبت لهم الصداع والألم. ويكفي في هذا السياق كدليل أن نستحضر ما قالته كلينتون تعليقًا على عملية استهداف قنصلية بلادها في بنغازي التي قتل فيها السفير الأمريكي في طرابلس الغرب وعملية مهاجمة السفارة الأمريكية في القاهرة ورفع علم تنظيم القاعدة عليها.
قالت كلينتون بهستيريا وألم: ''الأمريكيون يسألوننا وأنا أسأل نفسي، كيف يحدث هذا في دولة ساعدناها وأنقذناها من الدمار؟'' و''كيف تستبدل شعوب ليبيا ومصر واليمن طغيان الديكتاتور بطغيان الغوغاء؟''.
إذن، أولئك الذين صفقت لهم كلينتون بإعجاب، وأمطرتهم إدارة أوباما بالثناء والمديح في أوائل العام الماضي، (وفي رواية أخرى أولئك الذين دربتهم منظمات أمريكية تابعة للحزبين الديمقراطي والجمهوري على استخدام وسائل الاتصال الجماهيري الحديثة للتحريض والتحشيد والتخريب، قبل إعادة إرسالهم إلى بلدانهم من أجل إحداث التغيير السياسي في مجتمعاتهم)، صاروا اليوم من الغوغاء، بعد أن كانوا قبل أقل من عام طلاب حرية وعدالة وكرامة وحقوق، وصوت الأمل المقاوم للتطرف الديني والسياسي في البلاد العربية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي