ما آلت إليه أوضاع الكهرباء هو إحدى نتائج الهيكلة!!

لا مراء في أن الكهرباء تعد إحدى ضرورات الحياة اليومية، ولا تستقيم حياة المجتمع الذي يعتمد عليها من دونها، ولم يعد الانتفاع بها قاصرا على المنازل والمكاتب وتشغيل أجهزة التكييف، بل أصبحت هي القطب المحرك لعجلة الاقتصاد والإنتاج. وتزداد أهميتها عن الخدمات الأخرى، كالماء مثلا، في أنه لا يمكن تخزين احتياطي لها، ولا يمكن التزود بها من مصدر آخر عند الانقطاع، فضلا عن أنه يترتب على انقطاعها تلف وتدمير كل ما يعتمد على التبريد والتجميد مما يتصل بحياة الناس وصحتهم، ومن هنا تأتي أهمية الكهرباء للناس، واعتمادهم عليها، ومقدار تأثرهم وسخطهم عند انقطاعها، أكثر من أي خدمة أخرى!!
والمتتبع لوضع الكهرباء في المملكة يعلم، أنه قبل الوضع الأخير، كانت هناك عدة شركات مساهمة عامة في المناطق الرئيسة، وشركات أخرى محدودة ومشاريع مملوكة للحكومة في بقية المناطق، وأنه في وقت سابق أنشئت المؤسسة العامة للكهرباء لتقوم برعاية وإدارة المشاريع الصغيرة، وأن الحكومة كانت تقدم إعانة للشركات وتضمن لمساهميها حدا أدنى من الأرباح مقابل تدخلها في تحديد تسعيرة التيار الكهربائي لبعض الفئات. ورغم ذلك، كانت هذه الخدمة تشكو من تعثر وانقطاع وعجز عن مواكبة الطلب على توفيرها، ناهيك عن افتقار مساحات شاسعة من الأرض والسكان إلى هذه الخدمة، نتيجة عجز الشركات عن توفير الأموال اللازمة للتوليد والنقل والتوزيع، الأمر الذي دعا إلى فرض رسم على المستهلكين في يوم من الأيام، سميّ رسم الكهرباء، تجمع حصيلته في صندوق يخصص لتمويل مشاريع التوليد، بيد أنه ما لبث أن تكشَّف عجز هذه المحاولات عن إنقاذ الوضع المتردي لهذا القطاع، الذي أسهم فيه توقف الحكومة عن دفع الإعانة للشركات نتيجة الاختلاف حول كيفية حسابها، وما تبع ذلك من توقف أجهزة الدولة عن دفع قيمة ما تستهلكه من التيار، وتوقف الشركة، بالتالي، أو عجزها، عن تسديد قيمة مسحوبات من الوقود لشركة أرامكو، الذي خلق وضعا معقدا غريبا.
وكان لا بد أمام هذا الوضع المتأزم، وما كان ينذر به من كوارث في المستقبل من البحث عن حل ينقذ الموقف، حيث ولدت فكرة إعادة التنظيم وهيكلة الأسعار المتمثلة في دمج جميع الشركات في شركة واحدة موحدة، وإعادة تركيبة وهيكلة الأسعار، والبحث عن مصادر دخل أخرى، وإلغاء الإعانة الحكومية في شكل مقايضة تتنازل بها الحكومة عن نصيبها من الأرباح! وظن المسؤولون أن هذا التنظيم كفيل بحل معضلة الكهرباء، وتوفير مصادر تمويل دائمة لمقابلة التوسع في المستقبل، خاصة وقد صاحبه، أي التنظيم، إلغاء المؤسسة العامة للكهرباء، وإنشاء الهيئة العامة للكهرباء بتنظيمها الجديد، لتواكب التنظيم وترعاه وتشرف عليه!
وكان أحد أبرز سمات الهيكلة تقسيم المستهلكين إلى أربع فئات رئيسة، تقدم الخدمة لثلاث منها, هي: الصناع، الزراعيين، وصغار المستهلكين بأقل من التكلفة (عشر هللات)، لتبقى الفئة الرابعة المؤلفة من كبار ومتوسطي المستهلكين الأفراد ومعهم الإدارات الحكومية الذين تقدم لهم الخدمة في شكل شريحة تصاعدية تدخل معظم الاستهلاك في الشريحة الكبرى (26 هللة) التي تتجاوز تكلفة الإنتاج والنقل والتوزيع!!، أي بمعنى أن الشركة تخسر في تقديم الخدمة لمعظم الفئات، وتربح فقط من تقديمها للشريحة الرابعة!! ولم يحسن من الصورة اللجوء إلى فرض مصادر أخرى للدخل لم يجد المستهلك لها وجها، مثل رسم خدمة العداد، ورسم إعداد الفاتورة!!، لأن الجزء الأكبر من الاستهلاك يقدم بسعر يقل عن التكلفة، وهو ما يدفع إلى الإسراف في الاستهلاك، وزيادة العبء على التوليد ومصادر الطاقة، فضلا عن أن هذا الوضع وهو تقديم الخدمة لفئات دون غيرها بأسعار مخفضة، قد أثار حفيظة الآخرين الذين استشعروا الغبن، ودفعهم إلى الاحتجاج والمطالبة بالمساواة، وهو ما حدث بالفعل، حيث ألحقت فئات مثل المدارس والمعاهد والمستشفيات، وحتى الشقق المفروشة، بركب المعانين، مما زاد العبء والخسارة على الشركة! ولعل أبرز العيوب التي صاحبت إعادة التنظيم، وبدأت آثارها السلبية تظهر بوضوح فيما نشهده الآن هي: أولا تقديم الخدمة بأقل من التكلفة بشكل ظاهر لفئات كثيرة استهواها الانخفاض في التعرفة فأغراها تلقائيا بالتوسع في الاستهلاك. وثانيا، إلغاء الإعانة الحكومية في وقت فرض فيه التنظيم تقديم الخدمة بأقل من التكلفة لبعض الفئات مخالفة للقاعدة العامة التي تقضي بتقديم الفرق كإعانة متى ما تدخلت الدولة في تحديد السعر بأقل من التكلفة!
غير أن الحكومة، بموافقتها على التنظيم، بما فيه حساب استهلاك أجهزتها وجميع مرافقها بسعر الشريحة العليا، بدت وكأنها تدفع الإعانة للشركة بطريق غير مباشر، في صورة استهلاك بلغت قيمته تسعة عشر مليار ريال تراكم خلال السنوات الماضية، وفقا لما نشرته الصحف المحلية في الخامس عشر من رمضان بحيث يدفع هذا المبلغ للشركة خلال ثلاث سنوات، بالإضافة إلى التزام الحكومة بدفع ما يترتب على دوائرها في المستقبل بانتظام ضمن الميزانية العامة للدولة!! ومن اللافت للنظر أن هذا التأجيل والتراكم يتم في وقت تتضمن فيه ميزانية كل إدارة حكومية بندا مخصصا لمقابلة احتياجها من الخدمات والمرافق وأولها الكهرباء. غير أنه، فيما يبدو، وفي غفلة من الجهات المسؤولة عن الرقابة، يتم التصرف فيما يعتمد لخدمات أخرى، فلا يبقى للكهرباء شيء!! .. أو أن الإدارات الحكومية تتوسع في استهلاك الكهرباء إلى حد لا يكفي معه ما يخصص ضمن الميزانية، فتتراكم الاستحقاقات!!...
والخلاصة، أن كل ما يلوح في أفق الكهرباء يدعو بإلحاح إلى إعادة مراجعة التنظيم، خاصة وقد مضت عليه عدة سنوات، وظهرت بشكل واضح خلالها العيوب والنواقص التي لم يحسب لها حساب، والمفترض أن تركز المراجعة على تحقيق العدالة بين جميع الشركاء من منظور كل من الحكومة والمستهلك والشركة بحيث تتلافى المراجعة الأسباب التي أفضت إلى النتيجة التي يعيشها الوضع حاليا، ومن ذلك:
1 ـ تقديم الخدمة بتكلفها الفعلية لجميع الفئات دون تخفيض كبير يدفع إلى الإسراف في الاستهلاك كما هو حاصل حاليا، وبما يؤدي إلى توزيع الأعباء على الشركاء كافة، ويضمن استمرار الخدمة، وتوفير مصادر للتمويل، وإذا كان من الفئات من يحتاج إلى المساعدة، أو رؤي أنه لا يستطيع تحمل الاستهلاك، فإنه يمكن تقديم المساعدة له في صورة أخرى غير التيار الكهربائي الذي يعد سلعة تقوم بإنتاجها شركة تهدف إلى الربح..
2 ـ إن الإسراف في استخدام الكهرباء قد غدا ظاهرة شائعة في المدن والقرى والمرافق العامة، ومن يشاهد المدن من الطائرة ليلا، أو يتجول بالسيارة حتى في المدن الصغيرة والقرى سيلحظ ما أعنيه، وسيجد أن بعض مدننا تتفوق على المدن الأوروبية في هذه الناحية، حتى وإن كانت الاستفادة محدودة بسبب سوء التوزيع.
يضاف إلى ذلك إسراف الأجهزة الحكومية في استهلاك الكهرباء، ومن الغريب أنه لا توجد منشأة حكومية واحدة روعي في تصميمها الاستفادة الكاملة من الشمس الساطعة طيلة العام وضوء النهار في الإضاءة، ذلك أن هذا العنصر يكون مغيبا أثناء التصميم!!
3 ـ ينبغي التركيز على الترشيد، فرغم أن أحد أهداف التنظيم الذي تم كان التركيز على الترشيد، حين ألزم الشركة بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة، بوضع برامج شاملة وخطط إعلامية للترشيد، إلا أن الملاحظ أن تأثير ذلك يكاد يكون منعدما في السنوات الماضية، ولذلك فإنه يجب الاهتمام، عند إعادة التنظيم، بهذا الجانب، وإيلاؤه الاهتمام الجدير به، لأنه يمكن عن طريق الترشيد والتوعية والإرشاد الحد من التوسع في الاستهلاك، بل وخفض الاستهلاك الحالي لجميع المستهلكين، وأولهم الدوائر الحكومية بشكل واضح!!..
4 ـ أهمية إلزام كل من يستفيد من الخدمة بدفع قيمة استهلاكه في وقته دون استثناء أو تأجيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي