الجرة لن تسلم في كل مرة!

<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>

توالت على بلادنا محن وتحديات سياسية واقتصادية متعددة خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت البلاد في كل مرة تنجو منها وتخرج سالمة بلطف وفضل من الله تعالى. لكن سلامة البلاد لا تعني أنها كانت تخرج بلا خسائر أو تضحيات، بل إن بعضها كان جسيما، عانى من تبعاتها العباد والبلاد فترة من الزمن. وإنما المقصود هو أن بلادنا كانت تخرج من هذه التحديات وقد حفظ الله تعالى لها وحدة أراضيها وسلامة مواردها العامة. وتلك كانت نعمة من نعم الله عز وجل تدعونا إلى التأمل والعظة ومراجعة سلبيات الماضي ولملمت الجراح ومحاولة سباق الزمن لتعويض الفرص الضائعة، وإيقاف هدر الإمكانات والتوجه بجدية نحو استغلال الموارد الاستغلال الأمثل الذي يتناسب مع نوع التحديات المتجددة التي يفرضها تغير الزمان والأحوال.
ولا شك أن أحد أهم العوامل التي أسهمت في سلامة البلاد يعود إلى روح الانضباط والاستعداد للبذل والفداء والإخلاص في الولاء. روح طالما تجلت بين مواطني هذه البلاد في أوقات المحن، فأظهروا التفافا حول قياداتهم واستعدادا للتضحية في سبيل الحفاظ على أمن البلاد ووحدة الأمة أملا في مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم.
كانت بعض هذه التحديات كبيرة وخطيرة، وكان يمكن أن تعصف بمكتسبات البلاد وأحوال العباد إلى مصير لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى منتهاه. ولعل أخطر هذه التحديات كان حادث اجتياح العراق للكويت قبل نحو 16 عاما، الذي ترتب عليه تعريض سلامة بلادنا إلى خطر محدق، وإعطاء القوى الكبرى مبررا لوجود أكبر في المنطقة، وإلى تكبد البلاد تكاليف مالية هائلة جعلها تئن تحت وطأة دين عام ضخم غير مسبوق، ما زلنا نعانى منه حتى الآن، وتسبب في تراجع مستوى معيشة عموم فئات المواطنين إلى حد كبير. وتلك فترة قد خلت لها ما لها وعليها ما عليها، ولكن يجب ألا تغيب عن التقييم والمراجعة والدراسة.
ثم جاءت طفرة أسعار النفط في السنوات الأخيرة، التي أدت إلى فوائض مالية كبيرة في الإيرادات، جعلت الناس تستبشر ببداية مرحلة جديدة في ظل عهد جديد، يأملون بأن يروا فيه بداية فك اختناقات الاقتصاد وتلبية حاجات الناس الضرورية التي كانت مؤجلة في الفترة السابقة، خاصة في مجال خدمات التعليم والصحة والبنية الأساسية وتوفير الوظائف. لكن يبدو أن فك الاختناقات لا يزال يسير ببطء شديد. وهذا يزيد من المخاطر التي تواجه بلادنا. فما زال مئات ألوف خريجي وخريجات التعليم الثانوي بلا مقاعد في التعليم العالي، وما زال الكثير من حديثي التخرج بلا وظائف، ولا تزال المدن تعاني اختناقات مرورية وتراجعا في مستوى الخدمات البلدية وقصورا كبيرا في بعض خدمات المنافع العامة كالماء والصرف الصحي، ولا تزال الأسر حديثة التكوين تجد مشقة بالغة في الحصول على قطعة أرض سكنية بسعر معقول، بعد أن استولى أهل الحظوة على ألوف وملايين الأمتار من الأراضي الصالحة للسكن والقريبة من الخدمات العامة في العديد من مدن البلاد. ولم يكن هذا الاستيلاء بغرض إشباع حاجاتهم السكنية وإنما بغرض التكسب والمتاجرة والثراء، ما أدى إلى وصول هذه الأراضي إلى الراغبين الحقيقيين فيها بأسعار عالية. وإذا نجح أحد هؤلاء بعد جهاد في الحصول على الأرض، يواجه مشكلة التمويل وقوائم الانتظار الطويلة لدى صندوق التنمية العقاري! هذا ونحن نتكلم – كما ترى - عن حاجات أساسية وليس عن حاجات تحسينية أو كمالية.
إن تطور الأحداث من حولنا، وزيادة المخاطر والأطماع التي تستهدف بلادنا وثرواتها، أضحت ظاهرة من خلال ما بدأ يتسرب عن هذه النوايا، إما بطرق غير مباشرة أو بشكل سافر وصريح. وهذا يحتم علينا سرعة تبني استراتيجية جديدة برؤية متقدمة تتناسب مع درجة خطورة هذه التحديات. وفي تصوري، أن هذه الاستراتيجية يجب أن تركز على حماية أمننا الاجتماعي والاقتصادي الداخلي بالقدر نفسه الذي نبديه في تقوية أمننا ( الدفاعي) الخارجي. فصلابة جبهتنا الداخلية هي الرصيد الحقيقي للأمة في مواجهة المخاطر عند حدوثها لا قدر الله. وتقوية جبهاتنا الداخلية تتطلب سرعة تبني برامج الإصلاح والقضاء على مظاهر الفساد، والأخذ بسياسات اقتصادية واجتماعية حصيفة غير مترددة تتصف بالمرونة والواقعية وتتخطى الروتين والعقبات الإدارية التقليدية، لنتمكن من مواجهة الاختناقات التي يعاني منها المجتمع والاقتصاد.
إن نجاحنا في التصدي بفاعلية وحزم للصعوبات التي ما زال يشتكي منها رجال الأعمال مثلا، سواء في مجال تغير القوانين وعدم استقرارها أو في مجال تأخر منح تراخيص الاستثمار أو صعوبة الحصول على تأشيرات العمالة اللازمة، من شأنه أن يساعد على زيادة عرض الخدمات التي يشد طلب الناس عليها كخدمات التعليم العالي والمهني والفني، وخدمات النقل الجوي الداخلي على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه، فإن كل مشروع جديد يتضمن توليد مزيد من الوظائف الجديدة التي يتلهف عليها العاطلون عن العمل من فتية المجتمع. ومن راجع اللقاء الذي أجراه الزميل سعود التويم مع رجل الأعمال الأستاذ عبد الرحمن الراجحي ونشرته "الاقتصادية" الأسبوع الماضي، يجد دلالة واضحة على مثل هذه الصعوبات.
أشارت بعض التقارير الاقتصادية الصادرة عن بعض بنوكنا المحلية أن وزارة المالية لا تزال تنتهج سياسة مالية متحفظة جدا، فنسبة ما ينفق من فوائض النفط على البرامج المدنية يقل عن تلك النسب التي جرت في طفرة السبعينيات. والغريب أن يجرى الأخذ بهذه السياسة شديدة التحفظ، على الرغم مما تتطلبه المرحلة وما يفرضه النمو السكاني من تحديات!
نحن في حاجة إلى كفاءات شابة طموحة تتحلى بروح الإخلاص والإقدام وقبول التحديات والرغبة في صنع الإنجازات، كما أن الحفاظ على مكتسبات بلادنا يتطلب الاهتمام بمواجهة التحديات الداخلية بالقدر نفسه الذي نبديه تجاه التحديات الخارجية. فمن يضمن أن تسلم الجرة في كل مرة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي