تباطؤ القرار في الأزمة الأوروبية والدرس الأمريكي
يبدو أن أهم الأسباب التي أدت إلى الأزمة الأوروبية هي تداعيات أزمة الرهن العقاري الأمريكي، خصوصا أن هذه الأزمة قد فتحت آفاقا جديدة للاطلاع على قدرة البنوك الائتمانية وجودة الأصول عند استخدام ما يسمى باختبار الجهد للبنوك الأمريكية والأوروبية لمعرفة نسبة الأصول السامة جراء الدخول في معاملات ومشتقات تمت معاملتها محاسبيا بشكل خاطئ. ومنها تعرض البنوك الأوروبية لأزمة الديون السيادية للدول والتي أغفلت في أوروبا عمدا عند اختبار الجهد لبنوكها. ومع ارتفاع نسبة المديونية في أوروبا بنسب وصلت إلى 160 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في اليونان و120 في المائة في إيطاليا - رغم أن اتفاقية الاتحاد الأوروبي تشدد ألا تتجاوز تلك النسبة 60 في المائة لكل دولة - وأصبحت مرتفعة لدرجة أن النسبة تلك وصلت في المتوسط إلى 85 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو. أصبح من الواضح أن هذه النسب المرتفعة تنبئ بإطلاق تحذيرات على عدم قدرة تلك الدول على السداد، وخصوصا للقطاع البنكي مما يحتم إعادة هيكلة قوية لتفادي تلك الأزمة.
ومن الواضح أن انعكاساتها على الاقتصاد العالمي كانت قوية بتراجع الأسواق المالية وتذبذبها بشكل كبير، وافتقاد الثقة باقتصاديات تلك الدول، خصوصا مع تراجع معدلات النمو وازدياد معدلات البطالة في أمريكا وأوروبا، وارتفاع معدلات التضخم. إن هذه المؤشرات الثلاثية: تراجع أسواق الأسهم، والبطالة، ومعدلات التضخم هي لحظية وتستبق الانهيارات الكبيرة في الاقتصاديات وتنبئ بانعكاسات خطيرة على الاقتصاد العالمي إذا لم تجابه بحلول قوية وسريعة. وهذه المؤشرات تعتبر جميعها عالية في أمريكا وأوروبا وآسيا ودول الخليج وغيرها من دول العالم؛ مما يشير إلى مخاطر عالية وعدم استقرار مما يشكل مخاوف ما زالت تبعاتها قائمة حتى الآن.
في هذه الأزمات تحتاج الدول إلى عمليات إنقاذ سريعة وقوية، وتحتاج إلى مساندة دولية من دول العشرين، وصندوق النقد الدولي، والبنك المركزي الأوروبي. ومن أجل ضخ المليارات التي قد تتجاوز التوقعات لإنقاذ أوروبا، فإنها تتطلب شروطا لنجاحها ومنها الالتزامات بخفض عجوزات الموازنة (التقشف)، وتسريح عمالة مما يرفع نسبة البطالة، ورفع نسبة الضرائب لزيادة الإيرادات، وجدولة الديون، وغيرها من الإجراءات. وهذه ليست تدخلات تمس السيادة بقدر ما تحاول علاج مشكلة قائمة لاقتصاد عالمي واحد، يحمله قارب واحد. إن الامتناع عن التقيد بشروط صارمة يؤدي إلى تبعات أخرى على الدول الأخرى ليس في أوروبا فحسب، بل وفي آسيا والخليج وغيره؛ لذا فإنني لا أرى أن هناك أية مساومات على السيادة الوطنية في مثل هذه الحالات كما يعتقد البعض عند تفسيرهم سقوط حكومتي اليونان وإيطاليا.
إن إسقاط حكومات إيطاليا واليونان هو خيار ديمقراطي داخلي، كان على تلك الدول اتخاذه؛ حيث فقدت الثقة بتلك الحكومات. وعند فقدان الثقة تستوجب العملية الديمقراطية التغيير. وهذه هي آلية الديمقراطية. ورغم ذلك فإني أرى أن تلك العملية قد حالت دون اتخاذ إجراءات سريعة وقوية في معالجة أزمة اليونان على سبيل المثال. فحكومة بابندريو تلكأت كثيرا، وتوجهت للاستفتاء العام، وسرحت الآلاف من موظفي القطاع العام. والمفاوضات الفرنسية - الألمانية اتسمت بالتردد وعدم الاتفاق السريع على خطوات محددة، والبنك المركزي الأوروبي هو الآخر تضاربت سياساته بين أن يلتزم بالمحافظة المتشددة المعروفة عنه، وبين أن يهبّ لإطفاء حرائق الديون بضخ المزيد من السيولة وخفض سعر الفائدة. كل هذا التلكؤ والتباطؤ الديمقراطي أسهم في تفاقم الأزمة الأوروبية، وما زلنا لا نستطيع التنبؤ بتبعاتها.
ومع ذلك، فإن هناك فرصا متاحة لاحتواء الأزمة، فقد تم خفض سعر الفائدة في أوروبا على عكس السياسة المتشددة للبنك المركزي الأوروبي، وتم الالتزام بتثبيت فائدة الاحتياطي الفيدرالي حتى 2013. وهناك التزام بضخ المزيد للاقتصاديات المتعثرة، وتعاون كبير بين الترويكا: صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي، والمفوضية الأوروبية. ورغم تلك الجهود، إلا أن تلك الترويكا تتبع دولا ما زالت الأجندة السياسية تحكم الأجندة الاقتصادية فيها؛ مما أدى إلى تباطؤ في اتخاذ القرارات. وهذا التباطؤ هو ما أدى إلى القلق والخوف من تفاقم الأزمة في حال انفلاتها من يد الساسة. إن سر نجاح الإدارة الأمريكية في الخروج من أزمة الرهون العقارية وتحقيقها أرباحا كبيرة من عملية إعادة هيكلة ''سيتي جروب'' و''جنرال موتور'' هو قدرتها على اتخاذ قرارات سريعة وقوية، وهو ما لا نراه في حالة الدول الأوروبية. ولعل ذلك هو أهم الدروس المستفادة من تلك الأزمات.